أسطورة حميدو الذيب..حكاية المغرب والمخدرات

آخر صورة لحميدو الذيب في مدينة طنجة

المصطفى الجوي – موطني نيوز

في صيف عام 1996، بينما كان المغاربة يستعدون لاستقبال شهر رمضان المبارك، كانت هناك عاصفة تلوح في الأفق. في أروقة السلطة في الرباط، كان الهمس يتصاعد حول تقرير مرتقب من الأمم المتحدة. وعندما صدر التقرير أخيرًا، كان وقعه كالصاعقة.

تحدث التقرير بلا مواربة عن تورط أجهزة الدولة المغربية في تجارة المخدرات. لم يكن الأمر مجرد تغاضٍ أو إهمال، بل اتهامات صريحة بالتواطؤ والفساد. وكأن هذه الضربة لم تكن كافية، جاء تقرير البنك الدولي ليضيف الملح إلى الجرح، راسمًا صورة قاتمة لمستقبل الاقتصاد المغربي.

في خضم هذه الأزمة، وقف الملك الحسن الثاني أمام البرلمان، وبصوت يحمل نبرة القلق، حذر من أن البلاد معرضة لـ”سكتة قلبية”. كانت كلماته بمثابة جرس إنذار، إشارة واضحة إلى حجم الكارثة التي تلوح في الأفق.

وهنا يدخل إلى المشهد شخصية محورية في تحقيقنا “إدريس البصري”، وزير الداخلية آنذاك. بعيون تحمل مزيجًا من العزم والقسوة، أطلق البصري حملة اعتقالات واسعة النطاق، عُرفت باسم “حملة التطهير”. كان اسمًا مخيفًا، يذكّر بأحلك فترات التاريخ العالمي.

لكن في شوارع طنجة وأزقتها، كان هناك اسم آخر يتردد على كل لسان “حميدو الذيب”. من هو هذا الرجل الذي أصبح أسطورة حية؟

حميدو الديب

تخيل رجلًا بقامته القصيرة ووجهه المائل إلى الاستدارة يمشي في شوارع طنجة، محاطًا بهالة من الاحترام والخوف. كان الذيب أكثر من مجرد تاجر مخدرات؛ كان في نظر الكثيرين الدولة نفسها. في كل ركن من أركان المدينة، كانت بصماته واضحة مساجد شيدها، ملاعب مولها، عائلات أطعمها.

في أيام الجمعة، كان المشهد سورياليًا. بعد صلاة الجمعة، بدلًا من العودة إلى منازلهم، كان الناس يصطفون في طوابير طويلة. السبب؟ كان الذيب يوزع مئة درهم لكل من يسلم عليه. وفي عيد الأضحى، كان يوزع الأضاحي على العائلات الفقيرة.

لكن الذيب لم يكن ملاكًا. كان ذئبًا حقيقيًا، قادرًا على افتراس خصومه دون رحمة. عيناه كانتا تحملان نظرة حادة، تخبرك أنه رجل لا يُستهان به.

كيف استطاع الذيب بناء إمبراطوريته؟ الجواب يكمن في شبكة معقدة من العلاقات والرشاوى. تخيل خريطة معقدة، خيوطها تمتد من شوارع طنجة إلى أعلى مكاتب الدولة في الرباط. كل خيط في هذه الشبكة كان مدهونًا بالمال.

لكن قصة الذيب لم تقتصر على المغرب. كانت هناك همسات عن لقاءات سرية مع شخصيات دولية مثل “بابلو إسكوبار”، تاجر المخدرات الكولومبي الشهير. تخيل اجتماعًا سريًا في فيلا فخمة في الدار البيضاء، حيث يلتقي عمالقة تجارة المخدرات العالمية لرسم خرائط جديدة لطرق التهريب.

تاجر المخدرات الشهير بابلو إسكوبار

ثم جاءت اللحظة الحاسمة. في يوم من أيام صيف 1996، وجد الذيب نفسه محاصرًا. الرجل الذي كان يحكم شوارع طنجة بنظرة من عينيه، أصبح الآن في قبضة السلطات.

لماذا سقط الذيب؟ هل كان كبش فداء في لعبة سياسية أكبر منه؟ أم أن نفوذه أصبح يهدد مصالح أقوى منه؟ الإجابات غامضة، والحقيقة ربما دُفنت مع أسرار كثيرة أخرى في دهاليز السلطة المغربية.

في تلك الفترة، كان المغرب يقف على مفترق طرق. الملك الحسن الثاني، الذي حكم البلاد بقبضة من حديد لعقود، كان في أواخر أيامه. كانت هناك رياح تغيير تهب على المملكة، وعود بإصلاحات سياسية واقتصادية.

هل كان سقوط الذيب جزءًا من هذه التغييرات؟ أم أنه كان مجرد عرض جانبي في مسرحية سياسية أكبر؟

اليوم، عندما تمشي في شوارع طنجة، قد تسمع همسات عن حميدو الذيب. للبعض، هو بطل شعبي، روبن هود عصري سرق من الأغنياء ليعطي الفقراء. للبعض الآخر، هو مجرم خطير استحق مصيره.

أسماء معروفة بشمال المغرب كانت تجتمع مع اسكوبار في قصره الفاخر بمنطقة مرشان بطنجة

لكن الحقيقة، كما هو الحال دائمًا، أكثر تعقيدًا. قصة حميدو الذيب هي مرآة تعكس تعقيدات المجتمع المغربي، صراعاته، تناقضاته، وأحلامه. إنها قصة عن السلطة والمال والسياسة، عن الخير والشر، وعن الخط الرفيع الذي يفصل بينهما.

مع سقوط حميدو الذيب، ظن الكثيرون أن صفحة قد طُويت في تاريخ المغرب. لكن الحقيقة كانت أبعد ما تكون عن ذلك. فبينما كانت أبواب السجن تُغلق على “ملك الحشيش”، كانت أبواب أخرى تُفتح في عالم السياسة والاقتصاد المغربي الممزوج بتجارة المخدرات وعربدت المافيات.

في قصر الملك بالرباط، كانت الأجواء متوترة. الحسن الثاني، الذي حكم المغرب بيد من حديد لعقود، كان يدرك أن عصره يوشك على الانتهاء. في لحظات تأمل نادرة، كان الملك يفكر في إرثه. هل سيُذكر كحاكم استبدادي؟ أم كرجل قاد بلاده نحو الديمقراطية في أواخر أيامه؟

وهكذا، في خطوة مفاجئة للكثيرين، بدأ الحسن الثاني في رسم خارطة طريق للإصلاح. كانت هناك وعود بانتخابات أكثر شفافية، وبمزيد من الحريات السياسية. لكن السؤال الذي كان يتردد في أروقة السلطة، هل كانت هذه الإصلاحات حقيقية أم مجرد مسرحية سياسية؟

في هذه الأثناء، كانت شوارع طنجة تشهد تغيرات ملموسة. مع غياب حميدو الذيب، ظهرت وجوه جديدة في عالم تجارة المخدرات. كان هناك “شريف بن لويدان”، الذي سرعان ما أصبح الاسم الجديد على كل لسان. وبدلاً من تراجع تجارة المخدرات، شهدت المنطقة زيادة في الإنتاج.

بابلو اسكوبار في المغرب

هنا يبرز سؤال محير، إذا كان الهدف من اعتقال الذيب هو القضاء على تجارة المخدرات، فلماذا استمرت هذه التجارة في الازدهار؟ هل كان الأمر مجرد تغيير في الوجوه، بينما تستمر اللعبة نفسها؟

في أحد المقاهي الشعبية في طنجة، كان العجوز حسن يجلس مع حفيده، يروي له قصصًا عن الأيام الخوالي. “يا بني،” قال بصوت خافت، “في أيام حميدو، كنا نعرف من هو العدو ومن هو الصديق. اليوم، الحدود بينهما أصبحت ضبابية.”

وبينما كانت هذه التغيرات تجري في الشمال، كانت هناك تحولات أكبر على المستوى الوطني. ففي عام 1999، رحل الحسن الثاني عن الدنيا، تاركًا العرش لابنه الشاب محمد السادس. مع الملك الجديد، جاءت موجة من الأمل. كان هناك حديث عن “عهد جديد”، عن مغرب حديث ومنفتح.

لكن السؤال الذي ظل يتردد، هل سيتغير التعامل مع قضية المخدرات في هذا العهد الجديد رغم ظهور أسماء جديدة؟

الإجابة جاءت بشكل غير متوقع. بعد سنوات، ظهر فؤاد علي الهمة، مستشار الملك محمد السادس، في منطقة كتامة، معقل زراعة القنب. وفي خطوة أثارت الجدل، دعا الهمة إلى تقنين زراعة الحشيش. كانت لحظة صادمة للكثيرين. هل كان هذا اعترافًا ضمنيًا بفشل السياسات السابقة؟ أم كانت محاولة لإيجاد حل واقعي لمشكلة عمرها عقود؟

إدريس البصري و الحسن الثاني

في أروقة السلطة في الرباط، كانت هناك نقاشات محمومة. البعض رأى في هذه الخطوة فرصة لتنظيم القطاع وجني عائدات ضخمة للدولة. آخرون حذروا من أن هذا قد يفتح الباب على مصراعيه لمزيد من الفساد والجريمة المنظمة.

وسط كل هذه التحولات، ظل سؤال واحد يتردد، أين حميدو الذيب الآن؟ هل ما زال حيًا في سجنه؟ هل سيعود يومًا ما إلى شوارع طنجة؟ أم أن أسطورته ستظل تعيش في ذاكرة الناس، رمزًا لعصر مضى وأحلام لم تتحقق؟

في إحدى الليالي الهادئة في طنجة، جلس صياد عجوز على شاطئ البحر، ينظر إلى الأفق حيث تلتقي مياه البحر الأبيض المتوسط بالمحيط الأطلسي. تنهد وقال لنفسه: “الحياة مثل هذه المياه، تتغير باستمرار لكنها تبقى كما هي. حميدو رحل، لكن القصة لم تنتهِ بعد فهناك شريف بين الويدان والرماش ونيني وغيرهم الكثير”.

وهكذا تبقى قصة حميدو الذيب وتجارة المخدرات في المغرب فصلًا مفتوحًا في تاريخ البلاد. إنها قصة تتحدث عن الصراع بين القانون والعرف، بين الفقر والثروة، بين الأخلاق والضرورة. وفي النهاية، هي قصة عن شعب يبحث عن هويته وسط عالم متغير.

ربما لن نعرف أبدًا الحقيقة الكاملة عن حميدو الذيب وعصره ولماذا أصدرت التعليمات لإعتقاله؟ ومن هي الجهة التي تقف وراء تحريك مسطرة اعتقاله؟. لكن ما نعرفه هو أن قصته ستظل تُروى لأجيال قادمة، تذكيرًا بأن التاريخ، مهما بدا واضحًا، يخفي دائمًا أسرارًا وألغازًا تنتظر من يفك شفرتها. والدليل واضح وهو ان اعتقال حميدو الذيب لم ينهي تجارة المخدرات بالمغرب بل زاد من قوتها ومردوديتها.

إدريس البصري و الحسن الثاني وبعد كبار المسؤولين المدنيين و العسكريين

أتمنى ان اكون قد وفقت في سرد وقائع هذه القصة، وأنا على استعداد للحديث عن اي موضوع تحبون الحديث فيه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!