إشكالية الرقابة والمحاسبة بين السلطة المعينة والمنتخبة في المغرب

المصطفى الجوي

المصطفى الجوي – موطني نيوز

من يراقب ثروات الولاة والعمال؟ هذا السؤال الجوهري يفتح الباب على إشكالية عميقة في منظومة الرقابة والمحاسبة بالمغرب. فبينما تتجه أنظار الرأي العام والإعلام نحو المؤسسات المنتخبة عند الحديث عن الفساد، يبدو أن هناك فئة من المسؤولين المعينين تحظى بحصانة غير معلنة من المساءلة.

الولاة والعمال، هؤلاء المسؤولون المعينون، يتصرفون في مبالغ مالية ضخمة تفوق بكثير ما تديره المجالس المنتخبة. فإذا كانت الجماعات والجهات ومجالس المقاطعات والأقاليم تدير نحو 40 مليار درهم سنوياً، فإن أجهزة الدولة تتحكم في ميزانيات تتراوح بين 300 و400 مليار درهم. هذا التفاوت الهائل يثير تساؤلات مشروعة حول آليات الرقابة والتدقيق المطبقة على هذه المبالغ الفلكية.

حيث يبرز هنا خلل واضح في توزيع المسؤوليات والصلاحيات. فالسلطة المعينة، ممثلة في الولاة والعمال، تتمتع بصلاحيات واسعة في الإشراف على عمل المجالس المنتخبة. من حضور الدورات والموافقة على جداول الأعمال، إلى التأشير على المبالغ المالية والتدخل في قبول أو رفض المشاريع. لكن عندما يقع اختلاس أو هدر للمال العام، نجد أن المنتخب وحده هو من يتحمل المسؤولية وبالتالي يكون مصيره العزل أو السجن أو كلاهما!

هذا الوضع المختلط يخلق إشكالية حقيقية. فكيف يمكن محاسبة المنتخب وحده، في حين أن قراراته كانت خاضعة لموافقة وإشراف السلطة المعينة؟ ألا يجب أن يتحمل الوالي أو العامل جزءاً من المسؤولية، باعتباره جهازاً رقابياً يمتلك الوسائل الكافية لمتابعة ما يجري في نفوذه الترابي؟

إن هذه الإشكالية تدعو إلى إعادة النظر في منظومة الرقابة والمحاسبة برمتها. فإما أن نمنح المنتخب كامل الصلاحيات دون وصاية، مع إخضاعه لمحاسبة صارمة وشفافة، أو أن نوكل مهمة التدبير بشكل كامل للعمال والولاة مع تحميلهم كامل المسؤولية. أما الوضع الحالي، حيث يتشارك الطرفان في التسيير لكن يتحمل المنتخب وحده المسؤولية عند المحاسبة، فهو وضع غير عادل ولا يخدم مصلحة التدبير الرشيد للشأن العام.

ويبقى السؤال الملح: هل سبق لوزارة الداخلية أن قامت بافتحاص وتدقيق في ثروات الولاة والعمال؟ فإذا كانت الوزارة تمتلك القدرة على عزل وسجن رئيس منتخب بسبب شهادة إدارية، فلماذا لا تطبق نفس المعايير الصارمة على المسؤولين المعينين؟

إن تعزيز الشفافية والمساءلة في تدبير الشأن العام يتطلب مراجعة شاملة لآليات الرقابة والمحاسبة، بحيث تشمل جميع الجهات المسؤولة عن تدبير الموارد العمومية، سواء كانت معينة أو منتخبة. فهيبة الدولة وثقة المواطنين في مؤسساتها تتعزز من خلال تطبيق القانون بشكل عادل وشامل على الجميع، دون تمييز أو استثناء. وحتى نصل إلى تدبير رشيد وشفاف للشأن العام، لابد من إعادة النظر في هذه المنظومة المختلة، وإرساء قواعد واضحة للمساءلة تشمل جميع المتدخلين في تدبير الموارد العمومية.​​​​​​​​​​​​​​​​

ففي خضم هذا النقاش حول إشكالية الرقابة والمحاسبة في تدبير الشأن العام بالمغرب، نجد أنفسنا أمام تحدٍ جوهري يتطلب إعادة النظر في أسس منظومة الحكامة برمتها. فالواقع الراهن، بما يحمله من تناقضات وثغرات، يدعونا إلى التفكير خارج الصندوق وابتكار حلول جذرية تتجاوز الإصلاحات الشكلية.

لعل نقطة البداية تكمن في إرساء مبدأ “المسؤولية المتكاملة”، وهو نموذج يقترح توزيعاً عادلاً للمسؤولية بين السلطة المعينة والمنتخبة. فبدلاً من الوضع الحالي الذي يحمّل المنتخب وحده عبء المساءلة، نحتاج إلى نظام يربط الصلاحيات بالمسؤوليات بشكل متناسب ودقيق. هذا يعني أن الولاة والعمال، بحكم دورهم الإشرافي والرقابي، ينبغي أن يكونوا جزءاً لا يتجزأ من منظومة المحاسبة.

ولتحقيق هذا الهدف، يبدو من الضروري تأسيس “هيئة وطنية مستقلة للرقابة والتقييم”. هذه الهيئة ستكون بمثابة العين الساهرة على تدبير الموارد العمومية، بعيداً عن أي تأثيرات سياسية أو إدارية. صلاحياتها ستمتد لتشمل جميع المسؤولين، معينين ومنتخبين على حد سواء، مما سيضمن شمولية الرقابة وفعاليتها.

في عصر الثورة الرقمية، لا يمكننا إغفال دور التكنولوجيا في تعزيز الشفافية والمساءلة. لذا، فإن تطوير “نظام الشفافية الرقمية” يعد خطوة حاسمة في هذا الاتجاه. هذا النظام، المعتمد على تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة، سيمكّننا من تتبع حركة الأموال العمومية بدقة وكشف أي اختلالات في الوقت الفعلي، مما يسد الباب أمام أي محاولات للتلاعب أو الاختلاس.

غير أن الرقابة الفعالة لا يمكن أن تكون حكراً على الجهات الرسمية وحدها. هنا يأتي دور “المحاسبة التشاركية”، التي تفتح الباب أمام المجتمع المدني والخبراء المستقلين للمشاركة في عمليات الرقابة والتقييم. هذا النهج التشاركي من شأنه أن يعزز الثقة في نتائج المساءلة ويضمن شفافية أكبر في تدبير الشأن العام.

ولترسيخ هذه المبادئ وضمان التزام جميع الأطراف بها، يبدو من الضروري إقرار “ميثاق وطني للنزاهة والحكامة الرشيدة”. هذا الميثاق سيكون بمثابة العقد الاجتماعي الجديد الذي يلزم جميع المسؤولين منتخبين ومعينين بمعايير صارمة للشفافية والنزاهة، مع فرض عقوبات رادعة في حالة الإخلال بهذه المعايير تذهب الى حد احكام سالبة للحرية ومصادرة كل الاموال التي تمت مراكمتها عند انتهاء المدة الانتدابية بالنسبة للمنتخبين وعند الاحالة على التقاعد بالنسبة للمعينين.

إن تبني هذه المقاربة الشمولية ليس ترفاً فكرياً، بل هو ضرورة ملحة لتحقيق نقلة نوعية في منظومة الحكامة المحلية والجهوية بالمغرب. فمن خلال هذه الإصلاحات الجذرية، يمكننا ردم الهوة بين السلطة المعينة والمنتخبة، وتعزيز ثقة المواطنين في مؤسسات الدولة، وترسيخ مبادئ الديمقراطية التشاركية والتنمية المستدامة.

لكن علينا أن ندرك أن نجاح هذا النموذج يتطلب أكثر من مجرد إصلاحات قانونية أو إدارية. إنه يحتاج إلى تغيير جذري في الثقافة السائدة، وترسيخ قيم المساءلة والشفافية في جميع مستويات الإدارة والحكم. وهنا يأتي دور المجتمع بأكمله – من باحثين وأكاديميين ومجتمع مدني وإعلام – في دفع عجلة هذا التغيير والمساهمة في بناء نموذج حكامة يليق بتطلعات المغرب وتحديات القرن الحادي والعشرين.

وبالتالي، إن معالجة إشكالية الرقابة والمحاسبة في تدبير الشأن العام ليست مجرد مسألة تقنية أو إدارية. إنها في صميم بناء دولة الحق والقانون، وضمان تنمية شاملة ومستدامة تعود بالنفع على جميع المواطنين. فبقدر ما نجحنا في إرساء هذه المنظومة المتكاملة للرقابة والمحاسبة، بقدر ما اقتربنا من تحقيق الحلم المغربي في حكامة رشيدة وتنمية حقيقية.​​​​​​​​​​​​​​​ دون استثناء الولاة والعمال و كل الموظفون السامون من التدقيق و الإفتحاص المالي، كما هو الشأن بالنسبة للمنتخبين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!