المصطفى الجوي – موطني نيوز
في صيف عام 1798، وقف القائد الفرنسي الشاب نابليون بونابرت أمام الهرم الأكبر في مصر، متأملاً عظمة الحضارة الفرعونية وأسرارها الدفينة. بعد انتصاره في معركة الأهرامات الشهيرة، قرر بونابرت أن يستكشف أعماق الهرم بمفرده، في لحظة ستظل محفورة في ذاكرة التاريخ.
دخل نابليون حجرة الدفن الملكية تاركاً حراسه خلفه، وما حدث داخل تلك الغرفة الحجرية ظل لغزاً محيراً. فعندما خرج القائد الفرنسي، بدا عليه الارتباك الشديد، ورفض الإفصاح عما شاهده أو اختبره. انتشرت الشائعات بسرعة، وترددت أقاويل بأن نابليون تلقى رؤية عن مصيره داخل الغرفة الملكية، مما أثار فضول المؤرخين والباحثين لعقود طويلة.
هذه الحادثة الغامضة لم تكن سوى بداية لعلاقة معقدة بين نابليون والماسونية، تلك المنظمة السرية التي كان لها تأثير كبير على مجريات الأحداث في أوروبا وخارجها. فقد كانت مغامرة نابليون في مصر مصدر إلهام لما عُرف لاحقاً بـ “طقوس ممفيس”، وهي طقوس ماسونية أُنشئت لاستعادة الرموز الخفية والباطنية لمصر القديمة.
في عام 1815، قام العديد من الجنود السابقين الذين شاركوا في حملة نابليون بتأسيس طقوس ممفيس. ويؤكد التاريخ الشفوي لهذا التقليد الماسوني أن الغرض الحقيقي من الحملة الفرنسية على مصر كان الكشف عن الحكمة القديمة التي ظلت مخفية لفترة طويلة في أرض الفراعنة.
لم تكن علاقة نابليون بالماسونية وليدة اللحظة، فقد نشأ في كورسيكا محاطاً بالماسونيين. كان والده وإخوته الثلاثة أعضاء في المحافل الماسونية، مما يشير إلى أن الأسرة بأكملها كانت تنتمي عقائدياً وعملياً إلى طقوسها وممارساتها.
يعتقد المؤرخون أن نابليون تلقى تعليمه في نزل “فيلادلفيا”، وهو نزل عسكري، ثم سافر إلى مالطا ما بين عامي 1795 و1798 عندما استولى على الجزيرة من فرسان الإسبتارية. ومن المثير للاهتمام أن أليساندرو كاجليوسترو، مؤسس الطقوس المصرية، كان قد بدأ دراساته الخفية على هذه الجزيرة ذاتها قبل ثلاثين عاماً.
عند وصوله إلى مصر، خاطب الجنرال بونابرت قواته بكلمات خالدة: “من أعالي الأهرامات، تنظر إلينا أربعون قرناً من الزمان”. لكن واقع الحملة الفرنسية كان أكثر قسوة مما توحي به هذه الكلمات البلاغية. فقد عانى الجنود الفرنسيون من العطش والمرض والموت أثناء عبورهم الصحراء، في قرار اعتُبر خطأً استراتيجياً من قبل نابليون.
رغم هذه الصعوبات، نجح نابليون في هزيمة سلاح الفرسان المماليك هزيمة ساحقة في معركة إمبابة، التي عُرفت أيضاً باسم معركة الأهرامات. هذا الانتصار فتح الباب أمام انتشار الماسونية في مصر والشرق الأوسط.
كان حكم بونابرت بمثابة العصر الذهبي للماسونية في فرنسا. فخلال الأعوام الثمانية عشر التي قضاها في السلطة، زاد عدد المحافل الماسونية في فرنسا من 300 إلى 1220، وكان جزء كبير منها محافل حربية. رأى بونابرت في المحاربين الماسونيين وسيلة قوية لتوحيد الجيش، وأداة مطيعة ومخلصة في سياق طموحاته الأوروبية.
في مصر، تم تأسيس محفل “إيزيس” في القاهرة تحت قيادة الجنرال كليبر. وكان العالمان غاسبار مونج ودومينيك فيفان دينون، وهما من الماسونيين البارزين، من بين العلماء الذين رافقوا نابليون في حملته. ازدهر محفل إيزيس حتى اغتيال كليبر عام 1800، وبعد انسحاب الفرنسيين، تراجع نشاط الماسونية في مصر لفترة.
لكن بحلول أواخر القرن التاسع عشر، عادت المحافل الماسونية للانتشار في جميع أنحاء الإمبراطورية العثمانية، من القسطنطينية إلى بلاد الشام ومصر. وأصبحت الأخوية السرية جاذبة للشباب الأتراك والقوميين العرب الناشئين الذين رأوا فيها وسيلة لمعارضة السلطة الاستبدادية.
رغم ارتباطه الوثيق بالماسونية، اتبع نابليون سياسة معقدة ومتناقضة في بعض الأحيان. ففي بداية حملته على مصر، تظاهر بالإسلام هو ومجموعة من قادة حملته، ووزع منشوراً باللغة العربية يؤكد فيه احترامه للإسلام والقرآن. كان هذا جزءاً من استراتيجية سياسية لكسب تعاطف السكان المحليين.
لكن نابليون، في مذكراته الخاصة، كان يتعجب من قدرة المسلمين على فتح العالم في ثلاث عشرة سنة فقط، وكان يقارن نفسه بالنبي محمد، قائلاً إنه سيكون “إسكندر أكبر على المستوى العسكري، ومحمداً جديداً على المستوى السياسي”.
مع تقدم مسيرته السياسية، بدأ نابليون يبتعد تدريجياً عن النفوذ الماسوني. فبعد أن أصبح إمبراطوراً، حاول إعادة الكنيسة الكاثوليكية إلى فرنسا، مما أثار غضب الماسونيين. كما أنه رفض في النهاية اتباع نصائح الماسونية في مخططاتها المعادية للمسيحيين، وطلب من الحاخامات اليهود أن يعاونوه بدلاً من ذلك.
هذا التحول في موقف نابليون أدى إلى توتر علاقته مع الماسونية واليهود. فبعد أن كان قد وعد اليهود بوطن في فلسطين خلال حملته على مصر، نجده لاحقاً يكتب إلى أخيه ملك وستفاليا قائلاً: “ما من عمل أكثر خسة يمكنك فعله أكثر من استقبالك لليهود. لقد قررت إصلاح اليهود ولكني لا أريد زيادتهم في مملكتي”.
في النهاية، انتهى حكم نابليون بنفيه إلى جزيرة سانت هيلينا في المحيط الأطلسي، حيث قضى سنواته الأخيرة تحت حراسة مشددة. توفي في 5 مايو 1821 في ظروف صعبة، تاركاً وراءه إرثاً معقداً من الإنجازات العسكرية والسياسية، والأسرار الماسونية التي لا تزال تثير الجدل حتى يومنا هذا.
بعد 19 عاماً من وفاته، نُقلت رفات نابليون إلى فرنسا ووضعت في مقبرة ليزانفاليد في باريس. وفي لفتة دبلوماسية مثيرة للاهتمام، أهدى الإمبراطور الروسي نيكولاس الأول الجرانيت الأحمر للتابوت الضخم إلى فرنسا، في إشارة إلى تعقيدات العلاقات الدولية التي طبعت حياة نابليون وعصره.
تبقى قصة نابليون بونابرت والماسونية في مصر شاهدة على تداخل السياسة والروحانية والطموح الشخصي في صناعة التاريخ. فمن أسرار الأهرامات إلى دهاليز السلطة في أوروبا، رسم نابليون مساراً فريداً جمع بين الفتوحات العسكرية والاستكشافات الروحية، تاركاً وراءه إرثاً غنياً بالأسرار والإنجازات التي لا تزال تثير فضول الباحثين والمؤرخين حتى يومنا هذا.