المصطفى الجوي – موطني نيوز
في خضم الحياة المعاصرة، حيث تتسارع الأحداث وتتشابك العلاقات، تبرز الحاجة الملحة إلى بوصلة أخلاقية ترشدنا في بحر الحياة المتلاطم. وفي هذا السياق، تأتي حكمة الإمام ابن الجوزي كمنارة تضيء الطريق، مقدمة لنا درسًا عميقًا في فن الحياة. يقول الإمام: “اكتم عن الناس ذهبك وذهابك ومذهبك”. هذه الكلمات، في بساطتها الظاهرية، تحمل في طياتها أسرارًا عميقة لفهم النفس البشرية والتعامل مع تعقيدات المجتمع.
لنبدأ رحلتنا في استكشاف هذه الحكمة بالتأمل في مفهوم “الذهب”. إنه يمثل كل ما نملك من ثروات، سواء كانت مادية أم معنوية. في عالم يغلب عليه الاستعراض والتباهي، تدعونا هذه الحكمة إلى التواضع والتستر. لكن لماذا؟
إن النفس البشرية، في جوهرها، مجبولة على حب التملك والغيرة. عندما نكشف عن ثرواتنا، نفتح بابًا للحسد، ذلك الشعور الخفي الذي يتسلل إلى القلوب كالسم البطيء. الحسد ليس مجرد شعور عابر، بل هو قوة مدمرة قادرة على تخريب العلاقات وزعزعة الاستقرار النفسي. كما أن إظهار الثروة قد يجعلنا هدفًا للطامعين، فنجد أنفسنا محاطين بمن يسعون لمصالحهم الشخصية تحت ستار الصداقة أو المودة.
لكن الأمر لا يقتصر على حماية أنفسنا من الآخرين فحسب. إن كتمان “الذهب” هو أيضًا حماية لأنفسنا من أنفسنا. فالإنسان، عندما يعتاد على إظهار نعمه، قد يقع في فخ الغرور والتكبر، فيفقد تواضعه وصلته بجوهره الحقيقي. إن التستر على النعم هو تمرين روحي يذكرنا دائمًا بأن كل ما نملكه هو أمانة وعارية، وأن قيمتنا الحقيقية لا تكمن فيما نملك، بل فيما نحن عليه.
وننتقل الآن إلى مفهوم “الذهاب”، الذي يمثل خططنا وطموحاتنا المستقبلية. لماذا يدعونا الإمام إلى كتمان هذه الخطط؟ إن الإجابة تكمن في فهم عميق لطبيعة الإنجاز البشري. عندما نعلن عن خططنا قبل أوانها، نخاطر بتبديد الطاقة الدافعة التي تحركنا نحو تحقيقها. هناك متعة خفية في الحديث عن الأحلام، قد تمنحنا شعورًا زائفًا بالإنجاز قبل أن نبدأ حتى.
كما أن كتمان الخطط يحمينا من التأثيرات السلبية للآخرين. فكم من فكرة عظيمة ماتت في مهدها بسبب انتقادات سابقة لأوانها أو شكوك زرعها الآخرون في نفوس أصحابها؟ إن قصة سيدنا يوسف عليه السلام تقدم لنا درسًا بليغًا في هذا السياق. فنصيحة أبيه له بعدم إخبار إخوته برؤياه كانت حماية له من حسدهم وكيدهم، حتى قبل أن تتحقق الرؤيا.
وأخيرًا، نصل إلى “المذهب”، وهو يمثل آراءنا ومعتقداتنا الشخصية. إن كتمان المذهب ليس دعوة للنفاق أو إخفاء الحقيقة، بل هو دعوة للحكمة في التعبير عن الذات. في عالم متنوع الآراء والمعتقدات، قد يؤدي الإفصاح المفرط عن آرائنا إلى صدامات غير ضرورية وجدالات عقيمة.
إن الحكمة تكمن في معرفة متى نتكلم ومتى نصمت. كما قال سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “ندمت على الكلام مرات، وما ندمت على الصمت مرة!” هذا القول يلخص جوهر الحكمة في التعامل مع الآخرين. فالصمت، في كثير من الأحيان، هو أبلغ أنواع الكلام.
ولا يمكننا الحديث عن كتمان النعم دون التطرق إلى موضوع العين والحسد. إن اعتقادنا بتأثير العين ليس خرافة، بل هو حقيقة أكدها النبي صلى الله عليه وسلم. لكن الإسلام لم يتركنا عزلاً أمام هذا الخطر، بل زودنا بأسلحة روحية قوية للوقاية والحماية.
إن التوكل على الله، والتعوذ من الشيطان الرجيم، والالتزام بالأذكار الصباحية والمسائية، كلها وسائل فعالة لحماية أنفسنا وممتلكاتنا. هذه الممارسات ليست مجرد طقوس، بل هي تمارين روحية تعمق صلتنا بالله وتقوي إيماننا، مما يجعلنا أكثر قدرة على مواجهة تحديات الحياة.
إن حكمة الإمام ابن الجوزي تقدم لنا منهجًا متكاملاً للحياة، يجمع بين الحكمة الدنيوية والروحانية الإسلامية. إنها دعوة للتأمل العميق في ذواتنا وعلاقاتنا بالآخرين وبالعالم من حولنا. فكتمان الذهب والذهاب والمذهب ليس انعزالاً عن المجتمع، بل هو انخراط أعمق وأكثر حكمة فيه.
إن هذه الحكمة تدعونا إلى رحلة داخلية، رحلة اكتشاف للذات وفهم أعمق للنفس البشرية. وفي هذه الرحلة، نتعلم أن قوتنا الحقيقية لا تكمن فيما نظهره للعالم، بل فيما نحتفظ به في أعماق أرواحنا. وبهذا الفهم، نستطيع أن نبني حياة أكثر توازنًا وسلامًا، حياة تجمع بين النجاح الدنيوي والسمو الروحي.