المصطفي الجوي – موطني نيوز
على عكس أسلافهم الأمويين، انتهج الخلفاء العباسيون سياسة خارجية أكثر تحفظاً، حيث اكتفوا بالحدود التي رسموها ولم يتوسعوا كثيراً خارجها. وكانت حملاتهم الخارجية تتسم بطابع دفاعي أو انتقامي، بهدف حماية تلك الحدود وتثبيت سيطرتهم على جيرانهم.
في ذلك الزمن، كان بين المسلمين والروم عهد يقضي بدفع الروم الجزية وإظهارهم الخضوع للدولة العباسية، خاصة في ذروة قوتها. كانت الإمبراطورية البيزنطية تحكمها آنذاك إمبراطورة تُدعى إيرين الأثينية، التي أدركت أنها لا تستطيع مواجهة المسلمين عسكرياً. ففي عامي 782 و798، اضطرت للموافقة على شروط الخليفة المهدي ومن بعده هارون الرشيد، حيث دفعت لهارون جزية ضخمة كادت تفرغ خزائن دولتها.
ومع تزايد الغضب في الإمبراطورية البيزنطية، تم عزل إيرين وتولى نقفوريوس الأول (المعروف لدى المؤرخين المسلمين بنقفور الأول) الحكم. كان نقفور قائداً عسكرياً عدوانياً ومحارباً، فكتب إلى هارون الرشيد قائلاً:
“من نقفور ملك الروم، إلى هارون ملك العرب، أما بعد، فإن الملكة التي كانت قبلي قد أقامتك مقام الرخ وأقامت نفسها مقام البيدق، فأرسلت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أمثاله إليها. لكن ذلك كان ضعف النساء وحمقهن. فإذا قرأت كتابي، فاردد ما حصل قبلك من أموالها، وافتدِ نفسك بما يقع به المصادرة لك، وإلا فالسيف بيننا وبينك.”
غضب هارون الرشيد بشدة عندما قرأ الرسالة، حتى أن أحداً لم يجرؤ على النظر إليه أو مخاطبته. ثم استدعى دواة وكتب على ظهر الرسالة:
“بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم. قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون ما تسمعه، والسلام.”
سرعان ما جهّز هارون الرشيد جيشه وانطلق لتدمير الحصون والمدن البيزنطية على الحدود، حتى وصل إلى مدينة هرقلة التي كانت تعتبر عاصمةً مهمةً في منطقة العواصم البيزنطية، ففتحها وأسر ابنة الملك وغنم غنائم كثيرة، ثم أمر بهدم المدينة وأسر سكانها ونقلهم إلى الدولة العباسية. وفي الوقت نفسه، قام قائد الأسطول العباسي ابن معيوف بغزو قبرص، دمرها وأسر حوالي سبعة عشر ألفاً من سكانها بمن فيهم رئيس أساقفتها. وحاصرت الجيوش العباسية العديد من المدن الرومية.
أمام هذا الضغط، قرر نقفور إرسال وفد رفيع المستوى لعرض الصلح والجزية. وافق هارون الرشيد على الصلح بعد أن وردت إليه معلومات استخباراتية عن اضطرابات في خراسان مما اضطره للانسحاب.
ونصت معاهدة الصلح على أن يدفع الروم جزية سنوية قدرها 50 ألف صوليدوس ذهبي، بالإضافة إلى فرض هارون جزية شخصية كعقاب رمزي على الإمبراطور وابنه ولي العهد ستوراكيوس، تتكون من ثلاث قطع ذهبية لكل منهما تُقدم للخليفة مرتين أو أربع مرات سنوياً حسب رواية الطبري.
كانت هذه الجزية بمثابة اعتراف من الإمبراطور البيزنطي وولي عهده بخضوعهم للخليفة. كما اشترطت المعاهدة عدم إعادة بناء الحصون المدمرة. وبناءً على ذلك، أمر الخليفة بانسحاب القوات العباسية من المناطق المحاصرة وتفريغ الأراضي البيزنطية التي لم تتمركز فيها قواته.
(المصدر: البداية والنهاية لابن كثير، المجلد الخامس، ص 209).