المصطفى الجوي – موطني نيوز
في قلب إيطاليا الساحرة، تستلقي مدينة البندقية على صفحة الماء كلوحة فنية حية، تجمع بين روعة العمارة وسحر الطبيعة. هذه المدينة الفريدة، المكونة من حوالي 120 جزيرة صغيرة و150 قناة مائية، تثير تساؤلات عديدة حول سر صمودها أمام تحديات الماء والزمن.
السؤال الذي يتبادر إلى الأذهان دائمًا هو: كيف تمكنت البندقية من الحفاظ على أساساتها وجدرانها سليمة رغم ملامستها الدائمة للمياه؟ والأكثر إثارة للدهشة، كيف صمدت هذه المباني العتيقة حتى يومنا هذا رغم استنادها على قواعد خشبية مغمورة في الماء؟
الإجابة على هذا اللغز تكمن في براعة المهندسين القدماء وفهمهم العميق للطبيعة. فمنذ قرون، بدأ بناء المدينة باستخدام تقنية مبتكرة تعتمد على غرس أوتاد خشبية طويلة في قاع البحيرة. هذه الأوتاد، التي يتجاوز طولها 1.5 متر، تخترق الطبقات الضعيفة من التربة والطين السطحي لتصل إلى طبقة صلبة من الطين الشبيه بالصلصال.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ألا يؤدي غمر الخشب بالماء باستمرار إلى تآكله وضعف المباني؟ الجواب يكمن في عدة عوامل:
1. نوعية الخشب: استخدم البناؤون أنواعًا من الخشب عالية المقاومة للماء والعوامل الجوية، مثل خشب البلوط والأرز (اللاركس).
2. غياب الأكسجين: الغمر الكامل للخشب في الماء يمنع وصول الأكسجين إليه، وهو عامل أساسي في عملية تعفن الخشب.
3. تأثير الأملاح: الأملاح الموجودة في مياه البحيرة تتفاعل مع الخشب مع مرور الوقت، مما يؤدي إلى تصلبه وتحوله تدريجيًا إلى مادة أقرب في خصائصها إلى الحجر منها إلى الخشب.
هذه العوامل مجتمعة أدت إلى خلق أساس قوي ومتين للمدينة، مكنها من الصمود لقرون طويلة رغم التحديات الطبيعية.
البندقية ليست مجرد مدينة؛ إنها شهادة حية على عبقرية الإنسان وقدرته على التكيف مع بيئته. فمن خلال الجمع بين الهندسة الذكية والمواد الطبيعية، تمكن سكان البندقية القدماء من خلق معجزة معمارية تستمر في إبهار العالم حتى يومنا هذا.
اليوم، تقف البندقية شامخة كواحدة من أجمل المدن الأوروبية وأكثرها شهرة، تجذب إليها ملايين السياح سنويًا. فمن خلال شبكة قنواتها المائية المتداخلة ومبانيها التاريخية الفريدة، تقدم البندقية تجربة لا مثيل لها، حيث يمكن للزوار استكشاف المدينة إما عبر القوارب الصغيرة التقليدية أو سيرًا على الأقدام عبر جسورها وأزقتها الضيقة.
لتبقى البندقية أعجوبة هندسية وتحفة معمارية تتحدى الزمن، مذكرة إيانا بقدرة الإنسان على الإبداع والتغلب على التحديات الطبيعية. إنها ليست مجرد وجهة سياحية، بل هي درس في التناغم بين الإنسان والطبيعة، ونموذج للاستدامة قبل أن يصبح هذا المفهوم شائعًا في عصرنا الحالي.