المصطفى الجوي – موطني نيوز
“أراضينا لا تنطوي على مناجم ذهب أو فضة، وهذا الشعب الفتي ما كاد يبرأ من خراب ودمار حرب طويلة. كان التشجيع الذي تفضلتم – جلالتكم – به على تجارتنا مع مملكتكم، والدقة التي رأيتموها في عقد المعاهدة معنا، والإجراءات المنصفة الكريمة، كل هذه الأشياء تركت أثرًا عميقًا في الولايات المتحدة.”
لربما أصابتك الدهشة وأنت تسمع في نهاية هذا الاقتباس اسم الولايات المتحدة. نعم، فللوهلة الأولى، كما الجميع، ظننت أنه خطاب من دولة ضعيفة من دول العالم الثالث ربما إلى دولة كبرى ضخمة قوية، ومن أحد أسياد الكوكب. حسنًا، لنزيدك من الدهشة :
ما سمعته كان مقتطفًا من رسالة الرئيس الأمريكي جورج واشنطن. أما ما سينظم عندك أبياتًا وقصائد من الدهشة، هو أن رسالة جورج واشنطن كانت موجهة إلى السلطان المغربي حينها، محمد الثالث، وذلك سنة 1789، أي قبل سنة واحدة فقط من وفاة السلطان المغربي ومجيء ابنه المولى سليمان، الذي حافظت أمريكا على صداقته أيضًا.
رغم اضطراب أمواج البحر المتوسط والمحيط الأطلسي – وبالطبع اضطرابها ليس بالمعنى المناخي والجغرافي بل بمعنى السياسة والعسكر والاقتصاد – وهي اضطرابات مازالت حتى اللحظة تضرب أمواج هذا البحر وذاك المحيط، إلا أن شيئًا ما كان قادرًا على أن يغير من حقيقة أن أمريكا، إن انقلبت على كل حلفائها، فإن آخرهم ليس دول الخليج كما يعتقد البعض، بل المملكة المغربية.
لا ينحصر الأمر فقط فيما سنرويه فيما بعد حول أفضال المغرب على وجود أمريكا بالأصل، بل يتعداه إلى مصالح جيوسياسية غاية في التعقيد لا تسمح لأمريكا بتغيير ولو قيد أنملة بعلاقتها مع المغرب. ومن هنا يمكن قراءة أسباب ما تواتر مؤخرًا من أن أمريكا اليوم تخطط لإسقاط ملك عربي غير خليجي، أي في إشارة إلى الملك المغربي محمد السادس.
بالطبع، فإن هذه الشائعات عادة تكون لسببين وفق المحللين: الأول بأن أمريكا تريد شيئًا من المغرب وهي قادرة على الحصول عليه بلي الذراع والفرض، أو أن دولًا كبرى أخرى مازال لديها أمل بجذب المغرب ولو قليلًا صوبها. فإن من صالحها تكريس أجواء لها أسسها بأن أمريكا تغدر بأقرب حلفائها إن اقتضت الحاجة والضرورة، على عكس روسيا والصين اللتين أكدتا للعالم مرارًا أنهما لا تخونان الحليف.
أما اختيار المغرب أخيرًا للحديث عن غدر أمريكي يقترب منها، فالسبب ما أسلفنا الحديث عنه سابقًا بأن ما بين أمريكا والمغرب أكبر بكثير من أن تستطيع واشنطن الانقلاب عليه. وهو ببساطة، ودون ضرورة الدخول في التفاصيل والتعقيدات، بأن المغرب هو موطئ القدم الأخير لأمريكا في المنطقة المغاربية العربية، حيث باتت روسيا والصين في الجزائر وليبيا وحتى تونس لها الكلمة العليا.
أما إن تحدثنا عن تاريخ هذه العلاقات الحميمة ولماذا يعد غدر أمريكا بالمغرب ليس كأي غدر آخر، فيعود الأمر إلى عام 1777، عندما حدد السلطان محمد الثالث عددًا من الدول التي يمكن للمغرب أن يتاجر معها وذكر من بينها الولايات المتحدة التي كانت مازالت بحربها ضد بريطانيا. وهكذا أصبح المغرب أول دولة تعترف بالولايات المتحدة.
في السنة التي تلت الاعتراف، أعطى محمد الثالث للبواخر الأمريكية حق دخول كل الموانئ المغربية في تحدٍ كبير ومفاجئ حينها للبريطانيين. كما وقع المغرب مع أمريكا في عام 1778 اتفاقيات تؤمن عبور السفن الأمريكية عبر المحيط الأطلسي قرب سواحل المغرب.
ومن ثم أراد جورج واشنطن، الذي يدين له الأمريكيون اليوم بتأسيس بلادهم بالصورة التي هي عليها اليوم، أن يؤمن مرور السفن الأمريكية من البحر الأبيض المتوسط إلى أمريكا عبر المحيط الأطلسي. وبحكم أن الأمريكيين كانوا قد أمنوا على سفنهم عند عبورها المحيط، كان يريد جورج واشنطن أيضًا تأمين مرور سفن أمريكا عبر البحر المتوسط.
حينها كانت هذه السفن تعاني من قراصنة طرابلس وتلمسان وتونس، وهي كلها مدن تابعة للدولة العثمانية آنذاك في تركيا. وبالتالي فكر أول رئيس أمريكي في طلب وساطة المغرب، الدولة القوية الوحيدة القادرة على حماية الأمريكان في البحر. وبالفعل تمكن المغرب على الفور من وقف الهجوم على الأسطول التجاري الأمريكي، ما زاد من حظوظ المولى محمد الثالث لكي يدخل التاريخ الأمريكي من أوسع الأبواب.
وهو ما حدا بالمؤرخين اليوم القول إن محمد الثالث كان لديه من بعد البصر والبصيرة أنه كان يعلم بأن أمريكا هذه ستتسيد الكوكب يومًا. ومن الوثائق الأمريكية التي تؤكد الدبلوماسية الكبيرة لمحمد الثالث حينها، أن الأمريكيين رغبوا في شن حرب ضد طرابلس بعد أن تكررت عمليات هجوم على سفن أمريكية، لكن السلطان محمد الثالث أخبر الأمريكيين أن مساعدته في هجوم على طرابلس ليس واردًا نهائيًا وأن تعاليم الدين الإسلامي تمنع على السلطان المغربي أن يرفع سلاحه في وجه مسلمي طرابلس.
لكنه تدخل بشكل دبلوماسي وأنهى هجمات القراصنة وجنب الأمريكيين والليبيين حربًا ضروسًا وفرض فعلًا السلم في البحر الأبيض المتوسط. كما أن وثائق الدبلوماسية الأمريكية تخبرنا بأن الأمريكيين ظلوا مدينين للسلطان المغربي لأنه كان الوحيد في كل العالم من وقف إلى صف الأمريكيين ودعمهم حتى تجاوزوا أزمتهم الداخلية بعد إسقاط الحكومة الأولى وانتخاب حكومة أخرى وأعضاء مجلس التشريع الأمريكي.
وبالتالي كانت أولى القرارات التي اتخذها هذا المجلس اعتبار العلاقات مع المغرب علاقات استراتيجية، خاصة وأن ملف العلاقات المغربية الأمريكية يتشابك في عهد المولى محمد الثالث مع ملف العلاقات المغربية الإسبانية. ورغم أن شسوع المحيط الأطلسي فصل بين الدول الثلاث، إلا أن القضايا الدبلوماسية وحدتها. ففي الوقت الذي أبرم فيه السلطان محمد الثالث اتفاقًا مع الأمريكيين، كان سفيره إلى مدريد يبحث إبرام اتفاق مشابه مع إسبانيا.
ويمكن القول إن هذا التشابك الذي خلقته المغرب مازال قائمًا لليوم، حيث تمر الكثير من علاقات أمريكا وإسبانيا عبر المغرب. وبالطبع فإن محمد الثالث ومن بعده من سلاطين وملوك لم يجعلوا أساس التقارب بين المغرب وأمريكا البعد الاقتصادي فقط، بل لطالما قدمت المغرب نفسها لأمريكا بأنها الحليف الذي لا يمكن تعويضه.
وهو ما تجسد بما حدث بعد وفاة محمد الثالث وتولي ابنه المولى سليمان، الذي قال للدبلوماسي الأمريكي جيمس سامبسون، أول قنصل أمريكي يعين بالمغرب: “كانت أمريكا الدولة المسيحية التي تحظى بأكبر التقدير من قبل والدي أكثر من غيرها، وإنني أكن التقدير نفسه للأمريكيين، وأنا واثق من أنهم يبادلونني التقدير ذاته”. وهو نهج عليه حكام المغرب، سلالة الأسرة العلوية، حتى اليوم.
ما يعني بأن اليوم الذي ستفكر فيه أمريكا أن تغدر بالمغرب وتنقلب عليها، فهي لا تكون قد خانت أول من اعترف بها فقط، بل ستكون دمرت بيدها صمام أمانها في البحر المتوسط والمحيط الأطلسي.