المصطفى الجوي – موطني نيوز
هاروت وماروت ملكان أنزلهما الله تعالى إلى الأرض، وبالتحديد إلى مدينة بابل بحسب الديانات السماوية وأغلب الديانات الأخرى التي ذكرت قصتهما. وقد ارتبط اسمهما بالسحر وتعاليمه. من غير المعروف على وجه التحديد زمن نزول هذين الملكين، ولكن بحسب أغلب المفسرين كان نزولهما في فترة ما بعد وفاة نبي الله سليمان عليه السلام، وقيل أيضًا أن هذين الملكين نزلا بعد رفع نبي الله إدريس إلى السماء، وذلك لغاية محددة سنذكرها في سياق حلقتنا. فما هي قصتهما، وقصة الفتاة التي شكلت حدثًا مفصليًا؟ وما قصة بئر بابل؟ وهل حقًا لا يزالان في عالمنا حتى يومنا هذا أم عادا إلى السماء؟
قصة هاروت وماروت تناولتها الديانات السماوية وغير السماوية، ومن أبرز هذه الروايات الرواية اليهودية التي ذكرت في التلمود الملكين باسمي “شَمْحَزَاي” و”عَزَائِيل” أو “عَزَازِيل”. تقول الرواية اليهودية أن الملائكة لما رأت ما يصعد إلى السماء من أعمال بني آدم غاضبة، وطلبوا من الله عز وجل أن يسلطهم على الأرض، فكان جوابه تعالى: “إنكم إذا نزلتم إلى الأرض فسوف تستولي عليكم شهواتها”، فطلب منه الملكان أن ينزل إلى الأرض ويسكن فيها ليقدس اسم الله عز وجل. فلما نزل الملكان إلى الأرض سبحا ومجدا وعبدا الخالق تعالى، إلى أن ارتكبا المعاصي الكبرى بسبب فتاة رائعة، واسمها في التلمود “استير”، وفي اللغة العربية “الزهرة”. تذكروا أعزائنا المتابعين الأوفياء هذا الاسم جيدًا، فهو مرتبط بمعلومات صادمة سنذكرها خلال هذا التحقيق.
الجدير بالذكر أن الكتب اليهودية تذكر أن عددًا من الملائكة سكنوا الأرض وعلموا أهلها بعض الحُرَف، مثل أن “عزازيل” علم البشر كيفية صناعة الدروع والخناجر، كذلك مواد التجميل لإغواء بني آدم، أما “شيمْحَزَاي” فعلمهم طرد الأرواح الشريرة، والملك “أرَاروس” علمهم كيفية نطق التعاويذ السحرية، والملائكة “بَرَاكِيل” و”كُوكَبِيل” و”عَزْقِيل” و”سَمْسَاوِيل” و”سَرْبِيل” تولوا تعليم علوم التنجيم وعلامات الأرض والشمس والقمر لغرض معرفة المستقبل، وهذا ما ذكر في الروايات اليهودية.
أما بالنسبة للدين الإسلامي والقرآن الكريم، فقد ورد ذكرهما “هاروت” وّماروت” في سورة البقرة في قوله تعالى: “وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ”.
يقول ابن كثير في تفسيره لهذه الآية القرآنية المباركة: إن يهود المدينة كانوا لا يسألون النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم عن شيء في التوراة إلا وأجابهم، فلما سألوه عن السحر نزلت هذه الآية. ولما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم سليمان عليه السلام، قال يهود المدينة: “ألا تعجبون لمحمد يزعم أن ابن داوود أي سليمان عليه السلام كان نبيًا؟ والله ما كان إلا ساحرًا يركب الريح”، فأنزل الله هذه الآية ليكذبهم ويبرئ نبي الله سليمان من افتراءاتهم.
لهذا انقسم المفسرون إلى قسمين: قسم استنبط تفسير هذه الآية من التلمود اليهودية، ومنهم من رفض الرواية اليهودية رفضًا قاطعًا لأنها تتعارض مع مفهوم عصمة الملائكة في الإسلام. أما الرافضون للرواية اليهودية، فهم يربطون بين نزول هاروت وماروت إلى الأرض وبين نبي الله سليمان عليه السلام.
كما أورد ابن كثير والطبري وغيرهم أنه لما سُلب نبي الله سليمان عليه السلام ملكه بسبب مرضه الشديد وعدم قدرته على إدارة شؤون مملكته، بدأت الشياطين بالصعود إلى السماء لتستمع إلى كلام الملائكة، ثم تعود أدراجها إلى الأرض لتخبر الكهنة بما سمعت، والذين بدورهم كانوا يخبرون الناس بما سيحدث ليدعوا قدرتهم على معرفة الغيب والمستقبل. وكانت الشياطين تكتب السحر في غيبة سليمان عليه السلام، ويعنونها بهذا: “ما كتب أصَفْ بن بَرْخِيَة عن سليمان بن داوود”.
وأصَفْ ابن بَرْخِيَة بحسب أغلب المؤرخين هو من أحضر عرش ملكة سبأ إلى الملك سليمان بن داوود بطرفة عين، كما ذهب العلماء إلى أنه الذي عنده علم من الكتاب، قال تعالى في سورة النمل: “قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ”. لما استعاد سليمان عليه السلام ملكه، جمع كل هذه الكتب التي كتبها أصف بن برخية، ووضعها في صندوق دفنه تحت كرسيه، ولم يقترب أحد من الشياطين من الكرسي إلا واحترق.
فلما مات سليمان عليه السلام، وقل عدد العلماء الذين عرفوا ماذا فعل سليمان بكتب السحر، وبعد مضي جيل وولادة جيل آخر، تمثل الشيطان بهيئة إنسان إلى جماعة من بني إسرائيل، وأخذ يوسوس لهم بأن سليمان لم يكن نبيًا بل كان ساحرًا، والدليل هو الصندوق الذي تحت كرسيه. عاود إبليس الملعون المحاولة مرارًا وتكرارًا بعد رفض بني إسرائيل تكفير سليمان عليه السلام في بادئ الأمر، ولكن استمر إبليس بإغوائهم حتى حفر جماعة منهم تحت الكرسي وأخرجوا الصندوق. حيث أشاع إبليس بين الناس أن سليمان كان ساحرًا، وكانت النتيجة كثرة السحرة الذين تتلمذ على يد الشياطين، والدعوة إلى النبوة والغيب، وأن سحرهم معجزة النبوة.
ونتيجة لانتشار السحر بين بني إسرائيل، أنزل الله عز وجل الملكين هاروت وماروت ليعلما الناس السحر، ويفرقا بين السحر والمعجزة، وبين الله تعالى في القرآن أن أقصى ما يعلمانه هو التفريق بين الزوجين، ولا يتم ذلك إلا بمشيئة الله تعالى، وكانا يحذران بأنه فتنة وابتلاء من الله تعالى، والقصد من ذلك هو تعليم السحر ليبينوا للناس أن سليمان عليه السلام لم يكن ساحرًا بل كان نبيًا من الله تعالى، والدليل معجزاته التي هي أبعد ما تكون عن السحر الذي يمكن أن يتعلمه الإنسان، أما المعجزة فهي من خصائص النبوة.
وهناك تفسيرات أخرى لعلماء مسلمين تتقابل بشكل ما مع الرواية اليهودية، وورد في هذه التفسيرات لابن عمر وكعب الأحبار: أن الملائكة تعجبوا من عصيان البشر في الأرض، فأمرهم الله عز وجل أن يختاروا من ينزل إلى الأرض وتركب فيه الشهوة كي ينظر أي يطيعون أن يعصون، فاختاروا هاروت وماروت لينزلا إلى الأرض يعبدون الله ويسبحونه، حتى أتتهم الزهرة تلك الفتاة الجميلة فتعرضت لهما حتى أغوتهما، ثم مسخها الله كوكبًا في السماء، وأدرك الملائكة الأمر فاستغفروا للمؤمنين.
كما ذكرنا سالفًا، أن الرواية اليهودية تحدثت عن نزول الملكين إلى الأرض وصولًا إلى لقائهما مع استير أو الزهرة. الرواية اليهودية تقول: إن هذه المرأة رائعة الجمال اختصمت إلى الملكين، فأنبهرا بجمالها وحاولا مراودتها عن نفسها، فلم تقبل وطلبت منهما أن يعلماها الإسلام، فلم يقبلا، فطلبت منهما أن تعبد الأصنام مقابل أن تسلم لهما نفسها، فرفضا. ثم طلبت منهم قتل طفل كان معها، فرفضا أيضًا قتل نفس بريئة. فطلبت منهما أن يشربا الخمر، فقال أحدهما للآخر: إنه أهون الشرور. فلما شرباها عبدا الأصنام ووقعا عليها، ورآهم بهذه الحالة غلام مار، فقتلاه خوفًا من الفضيحة. وفي غمرة سكرهما، أفصحا للزهرة عن اسم الله الأعظم، فذكرته، فصعدت إلى السماء. وفي رواية أخرى، أنها لم تسلم نفسها إلى الملكين، وصعدت إلى السماء بعد أن عرفت الاسم الأعظم ثوابًا لها، وبسبب حفاظها على نفسها وضعها الرب بين الكواكب السبعة كي لا ينساها البشر.
أما بالنسبة للرواية الإسلامية، التي طالما اعتقدت أن هذه الرواية لا وجود لها في التاريخ الإسلامي، حيث إن المعتقد الراسخ في الإسلام يقضي بعصمة الملائكة وتنزيهها عن المعاصي، إلا أن أبا هريرة نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: “لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا: آمنا بالله وما أنزل إلينا”. الرواية الإسلامية تحدثت أن الزهرة هذه كانت ملكة من الفرس، وقد اختلفوا بسبب مسخها إلى كوكب، فرقة تقول بسبب إغوائها للملكين بدون صعودها إلى السماء، وأن هذين الملكين تشفعا بالنبي إدريس عليه السلام بعد أن أذنبا. أما الفرقة الأخرى، فتقول إن الزهرة لم تسلم نفسها إلى الملكين حتى يعلماها اسم الله الأعظم، فقال أحدهما: “أعلمها”، فرد الآخر: “إني أخاف الله”، فقال الذي أراد إعلامها: “فأين رحمة الله؟” ثم علماها الاسم، فتكلمت به وصعدت إلى السماء فمسخت كوكبًا.
أما بالنسبة لما حدث للملكين هاروت وماروت، فهناك روايتان لواقعتهما: إحداهما هي الرواية التلمودية التي استنبط منها بعض المفسرين الإسلاميين تفسيرهم، تقول هذه الرواية بأن الملكين أذنبا. والرواية الأخرى تنص على أن نزول الملكين إلى الأرض كان لقضاء مهمة بإذن الله تعالى. بالنسبة للرواية التي ترفض معصية الملكين بحكم عصمتهم، فلم يجد مفسرو الآية القرآنية شيئًا بل بتفسير سبب نزول الملكين. ومن المعروف أن الملائكة تعود إلى السماء بعد قضاء مهمتها على الأرض، كملك الموت عزرائيل وملك الوحي جبرائيل. إذًا على الأرجح وبأكثر الآراء، أن الملكين عادا إلى السماء بعد قضاء مهمتهما، والله تعالى أعلم.
ولكن ما ذكر في الروايات التلمودية والتفسير الإسلامي القريب منها حقًا شيء غريب. تقول الرواية الترمذية: أنه بعد أن عصى الملكان أوامر الله عز وجل، فقدا كل صفاتهما الملائكية، وحبسا في الأرض كسائر البشر، واتخذا زوجات الجميلات، وولدا ولدين: هواء وهياء، أي هو وهي، وقد قضاها الولدان مع نسليهما في طوفان نوح عليه السلام.
الرواية الإسلامية التي نصت على معصية الملكين تقول: إنه بعد أن أفاق الملكان من سكرهما، دهشا من معصيتهما وندما ندمًا شديدًا، وأخذا يتوسلان إلى الله عز وجل أن يصفح عنهما، فخيرهما الله تعالى بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فاختارا عذاب الدنيا كي ينالا مغفرة الله تعالى في الآخرة. يضيف بعض المفسرين على هذه المعلومة: أنه لما أفاق الملكان من سكرهما، حاولا الطيران باستخدام الاسم المقدس فلم يستطيعا، فعرفا أنهما أذنبا، فتشفع بهما نبي الله إدريس عليه السلام الذي رفع إلى السماء، فقال لهما: “خيرا بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة”، فاختارا عذاب الدنيا.
وقد كان عذاب الملكين أن تم ربطهما بسلاسل حديدية ثقيلة، وهما منكسا الرأس، المعنى أن أرجلهما كانت إلى الأعلى ورأسهما إلى الأسفل في بئر ماء في مدينة بابل، ودخان الأرض كله يجتمع في البئر فيضرب أعينهما، وهما عطشى والماء أمامهما ولا يستطيعان الشرب. وبحسب هذه التفسيرات والروايات، إن عذاب الملكين على هذه الحالة وفي نفس البئر مستمر حتى يومنا هذا وإلى يوم القيامة.
وكما ذكرنا سابقًا، فإن قصة هاروت وماروت ذكرت بالديانات السماوية، حيث إنها فصلت في الديانة اليهودية والإسلامية. أما في الديانة المسيحية، فيوجد لها تلميح بالملائكة الساقطة المعذبة بسبب عصيانها في الرسائل في العهد الجديد المسيحي. هذا أبرز ما ذكر عن قصة الملكين هاروت وماروت، والتي ما زالت إلى يومنا هذا تثير حيرة العلماء والمؤرخين، والعلم اليقين عند الله تعالى وحده.
فما رأيكم، أي التفاسير التي قدمناها يمكن أن تكون الصحيحة؟ وهل تعتقدون أن هذين الملكين ما زالا محبوسين على أرضنا هذه، وبيننا في بئر موجودة فيما تبقى من مدينة بابل القديمة، ينتظران خلاصهما يوم القيامة؟ مع أننا أغفلنا عمدًا الحديث عن ذكر قصتهما في كتب الأرمن والهند القديمة، واكتفينا فقط بتفاسير الأديان السماوية.
أما بالنسبة للدروس المستفادة من هذه القصة، فأهمها أن الله عز وجل حرم السحر وجعله محرمًا لدرجة أنه أنزل عز وجل ملكين ينصحان الناس ويعلمانهم خطورة السحر بكل أنواعه وأهدافه. كما تذكرنا أيضًا بأن الله عز وجل لم يخلق فتنة أشد من فتنة النساء، مصداقًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما تركت بعدي فتنة أشد على الرجال من النساء”، ففتنة النساء فتنة عظيمة، كما أخبرنا الله تبارك وتعالى أيضًا بقوله في سورة آل عمران: “زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ”. فتأتي شهوة النساء على رأس الشهوات التي زينت للإنسان.