المصطفى الجوي – موطني نيوز
تخصصي السياسة والصحافة، لا الأديان، ولا أريد أن أدخل في غير تخصصي. فلما كان كلامي واقعاً بين التخصصين، فإني أجعله من باب السؤال لا التقرير، وليصوبني المتخصصون من أهل الدين إن أخطأت، وليسامحوني في اجتهادي. لأنه من التعقيد بمكان الكلام عن فصل الدين عن السياسة فصلاً تاماً في سياق التاريخ العربي. فبينما كانت الخلافات المذهبية الكبرى في سياق التاريخ الأوروبي المسيحي مرتبطة بمفاهيم مجردة في مجالات اللاهوت والفلسفة، كمسألة طبيعة المسيح، كان مناط الخلاف الأول الذي نجم عنه افتراق المسلمين إلى مذاهب مسألة سياسية بامتياز، والتي كان فحواها ومضمونها موضوع الإمامة لمن الحكم؟ ولماذا؟.
ربما يجوز لنا ببعض التبسيط، ومرة أخرى، ليصوبنا أهل الفقه وعلماء الكلام والعقائد، أن نقول : إن الخلاف على الإمامة، والذي كان مبدأ افتراق الأمة الاسلامية على مذاهبها الثلاثة الكبرى (السنة والشيعة والخوارج)، كان خلافاً على مرجعية الحكم أو مصدر الشرعية، أو بلغة ذلك العصر على موضع العصمة. فالسنة يرون أن إجماع الأمة هو مصدر الشرعية، فإن أجمع الناس على عثمان في وجود علي، فعثمان هو الحاكم الشرعي. والشيعة يرون عصمة الإمام، ويرون أنه منصوص على شخصه في القرآن والسنة، فالإمام معصوم عن الخطأ، حتى لو أجمعت الأمة على غيره. والخوارج يرون عصمة النص، بمعنى أن الحاكم إذا خالف ظاهر النص المقدس من قرآن وسنة، فقد شرعيته، سواء جاءه الحكم بالنص والتعيين أو باختيار الجماعة، ووجب إذ ذاك قتاله وقتال من يطيعه أو يرضى به أو يسكت عنه.
أقول : إن كان السنة يقولون بعصمة الأمة، والشيعة بعصمة الإمام، والخوارج بعصمة النص في القرن السابع الميلادي، فإن هذه مسائل في النظرية السياسية المحضة، سابقة لزمانها، حتى وإن صيغت صياغات دينية. فأفكار الإجماع وعلاقته بالأغلبية والديمقراطية، والمبادئ فوق الدستورية، والمشاكل والحلول التي تطرحها، كلها أفكار حديثة، وكلها تعامل معها الأوائل، خاصة من أهل السنة والجماعة، واجتهاداتهم فيها جديرة بالبحث والنظر.
فالخليفة لم يكن يرث الحكم وراثة، بل يُبايَع، حتى وإن كانت البيعة في بعض الأحيان شكلية، إلا أن أهميتها النظرية لا يمكن إغفالها. ومن ذلك أن الخليفة لم تكن له سلطة التشريع، بمعنى أنه ليس له أن يغير مقدار الزكاة مثلاً أو أنصبة المواريث. وإن في قول الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري لمعاوية حين أشار لبيت المال بقوله : “هذا مال الله”، فقال له أبو ذر: “بل هو مال المسلمين”، وفي اعتبار الحاكم أجيراً عند المحكوم، مفاهيم كانت غائبة في زمانهم عن أكثر الأمم ولم تظهر إلا في العصر الحديث.
فأنت تتكلم نظرياً عن حاكم يختاره الناس، لا يحكم بالوراثة بشكل تلقائي، وليست له سلطة مطلقة فوق القانون، بل القانون فوقه، ولا يستطيع تغييره بإرادته، وكل هذا في القرن السابع. وفكرة الحكم بالنص والتعيين الإلهي، التي ينسب إليها الأوروبيون طغيان الملوك ذوي السلطة المطلقة، لم تنتج في تاريخنا إلا أئمة أقرب للقديسين منهم إلى الحكام، لأنهم باستثناء علي بن أبي طالب وابنه الحسن، لم يحكموا قط. فالاعتقاد بأن لهم الحق في الحكم، دون حصولهم على هذا الحق، حيث ألقى عليهم عبء أن يسلكوا سلوك المعصوم من ورع وتقوى وصبر على معارضة السلاطين، بدلاً من أن يعطيهم سلطة حكم مطلقة كالتي للملوك والأباطرة في أوروبا العصور الوسطى.
فباستثناء فترة حكم الفاطميين في مصر، والتي أدت إلى طغيان خلفاء غريبي الأطوار مثل الحاكم بأمر الله مثلاً، كانت نظرية الحق الإلهي في الحكم نظرية حكم في أوروبا، ونظرية معارضة عندنا، وأنتج هذا نماذج سياسية جديرة بالبحث أيضاً، خاصة في زمان نحن أحوج ما نكون فيه إلى معارضة شريفة تكون مثالاً يتبعه الناس، لا معارضة منبطحة تأتمر بالأوامر. أما فكرة أولوية النص على الحاكم، فهي فكرة جمهورية في جوهرها، عرفها اليونانيون والرومان، وعرفها الراشدون في المدينة. ولكن في كل هذه الحالات، كان الحكم مقتصراً على دولة بحجم مدينة واحدة، لا إمبراطورية شاسعة الأطراف.
فما إن تحولت اليونان من مجموعة من المدن إلى إمبراطورية الإسكندر، ثم إلى إمبراطوريات قادته، حتى أصبح من المستحيل القول بالحكم الجمهوري. وكذلك لم يكن صدفة أن يكون يوليوس قيصر وأكتاويانوس أغسطس، أعظم من وسع مساحة روما الجمهورية، أول من أنهى عملياً النظام الجمهوري فيها. ولم يكن صدفة كذلك أن تبدأ أحداث الفتنة الكبرى التي أنهت الحكم بالشورى والاختيار في المدينة، وانتهت بتأسيس سلالة حاكمة في الشام وبعد ذلك في العراق، بعد اتساع الفتوحات في عهد عمر وعثمان، ما صعب جمع آراء الصحابة وشيوخ القبائل المفترقين في الأمصار والتوفيق بين مصالحهم.
فأن تكون في ذلك التاريخ جماعة كالخوارج، تسعى لتأسيس الحكم على الانتخاب وترفض التوريث شكلاً وموضوعاً، ثم تجعل الثورة على الحاكم الظالم حقاً بل واجباً، أمر استثنائي جداً في وقته. أدري بأن تاريخنا ككل تاريخ يزخر بالظلم والقسوة، وأن هذه النظريات كلها أتى المؤمنون بها أفعالاً تخالفها. ولكن ما يعنيني هنا هو ثراؤها النظري، وإن هذا ليزيد مساحة الحزن والأسى على الضعف الذي نراه عند كثير من أحزابنا اليوم في باب النظرية السياسية وابتداع أشكال جديدة من الحكم، يستبدون من خلالها بكراسيهم لدرجة تجد أن كل الامناء العامون في أحزابنا اليوم شيوخ وكهول ولا مجال للشباب.
فبين من يقدس التراث فيعميه انبهاره عنه ويأخذه بلا تمحيص، وبين من يزدريه فيتركه جملة ويقتبس من غزاته الغالبين، مولعاً بتقليدهم، وجدنا أنفسنا حين وقعت السلطة في أيدينا للحظة قصيرة من التاريخ بلا هدىً ولا سند لنتفادَ ما وقعنا فيه. فالسياسي والمنتخب في بلادي كمثل الماشي في الصحراء وعنده ماء وزاد وجمل ودليل، فترك الدليل وأكل الجمل وسكب الماء ودفن الزاد، وبقي يندب حظه وينتظر قافلة تقله. لنقرأ تاريخنا بلا ازدراء ولا تقديس، فإننا سنحتاجه ربما أقرب مما نظن.
أختم وأقول : إن فصل الدين عن السياسة هو مبدأ يقوم على فكرة فصل المؤسسات الدينية عن السلطة السياسية والحكومة. يعني هذا المبدأ عدم تدخل الدولة في الشؤون الدينية، وعدم تدخل المؤسسات الدينية في الشؤون السياسية للدولة. يهدف هذا الفصل إلى ضمان حرية المعتقد الديني وممارسة الشعائر الدينية دون تدخل من السلطة السياسية، وفي الوقت نفسه منع استغلال الدين لأغراض سياسية من قبل الحكومات أو الجماعات الدينية.
ومن المزايا الرئيسية لفصل الدين عن الدولة هي تعزيز التسامح والتعددية الدينية، وحماية حقوق الأقليات الدينية، وضمان المساواة بين جميع المواطنين بغض النظر عن معتقداتهم الدينية. كما يساعد على الحفاظ على استقرار الدولة وتجنب الصراعات والاحتكاكات الناجمة عن تدخل الدين في السياسة أو العكس…تحياتي.