بقلم تميم البرغوتي – موطني نيوز
ما أجمعت العرب على شاعر قديم كما أجمعت على أبي الطيب أحمد بن الحسين المتنبي وكان أبي يقول: لو كان لي أن أختار ديوان شعر واحداً من بين دواوين شعراء العرب القدامى لاخترت أبا الطيب ولقد أصاب وصدق لكن لأبي الطيب المتنبي فضلاً فوق بلاغته فقد كان أكثر تمرداً على ملوك زمانه ممّا يعرف أكثر الناس فالشائع عنه في المقررات المدرسية في أيامنا أنه كان يمدح ويهجو على الجائزة ويوردون في ذلك مدحه لملك مصر كافور الإخشيدي ثم هجاءه له ويتهمونه بالعنصرية أيضاً لأنه في هجائه يعيره بأنه كان عبداً. وفي رأيي أن هذا كله ليس منصفاً وإنه لزمان غريب أن يحتاج حتى أبو الطيب فيه إلى الإنصاف.
لم يكن لأحمد بن الحسين الجعفي المولود في الكوفة عام 915 للميلاد مال غزير ولما كان من أهل الحضر فإن نسبه القبلي ما كان يوفر له سنداً اجتماعياً أو سياسياً يذكر كانت قوته كلها في كلامه ويُروى أن من أوائل الشعر الذي قاله وهو بعد في المكتب أي في مدرسة الصبيان قبل أن يبلغ :
شف الهوى أسفاً يوم النوى بدني وفرق الهجر بين الجفن والوسنِ
روح تردد في مثل الخيال إذا أطارت الريح عنه الثوب لم يبنِ
كفى بجسمي نحولاً أنني رجل لولا مكالمتي إياك لم ترني
بين حزيران وآب في عام مولده. قاد بابا روما تحالفاً من الأمراء المسيحيين يدعمهم جيش كبير من بيزنطة ضد قلعة فاطمية عند نهر غاريليانو في إقليم لاتسيو وسط إيطاليا. كان العرب يحكمون ذلك الحصن وما حوله لثلاثين سنة فتحه الأغالبة من ملوك تونس وصقلية، ثم ورثه عنهم الفاطميون. صمد الفاطميون ثلاثة أشهر في الحصار حتى نفدت مؤنهم فخرجوا من الحصن وقاتلوا حتى قتلوا جميعاً. ربما لم يعلم أبو الطيب المتنبي الطفل في الكوفة بهذه الوقعة تحديداً لكنها كانت علامة على ما سيصبغ عمره وزمانه والقرون التالية عليه. ويضمن لكلماته الخلود إلى أيامنا هذه فينام ملء جفونه عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم.
فقد اجتمعت في هذه الوقعة كل عناصر الحرب الصليبية حملة يقودها البابا في تحالف بين روما والقسطنطينية على “السراسين”. وهي الكلمة التي كان يستخدمها الأوروبيون لوصف العرب خاصة أو المسلمين عامة في تلك القرون. وفي السنة نفسها سنة وقعة نهر غاريليانو وسنة ميلاد الشاعر ولد علي بنُ عبد الله بنِ حمدان المعروف في التاريخ بلقبه سيف الدولة فاكتملت عناصر حياة الشاعر من غزو ومن مقاومة. وفي القرن العاشر الميلادي أيضاً كان معظم ولاة بلادنا كما في قرون كثيرة بعده لا يصلحون لشيء الأمة منقسمة بين إمارات شتى والوحدة التي كان بنو العباس يحفظونها على أيام أبي تمام والبحتري تفتتت.
فالبويهيون في فارس والقرامطة في جزيرة العرب والإخشيديون في مصر والفاطميون في تونس والمغرب والأمويون في الأندلس ولم يعد للمسلمين خليفة واحد بل ثلاثة وزادوا أميراً قرمطياً وهذا القرمطي سيهاجم الكعبة ويقتل الحجيج ويرمي أجسادهم في بئر زمزم ويسرق الحجر الأسود وباب الكعبة وستارها عندما يكون عمر المتنبي 15 عاماً. لذلك فقد كان أحمد بن الحسين مهجوساً بالسياسة وحال الناس كغيره ممّن هم في عمره ويشهدون هذه الأحداث ولما كان مدلاً ببلاغته ادعى النبوة في بعض قبائل السماوة فظفر به أمير حمص وحبسه إلى أن قال شعراً يتوب فيه. فلصق به منذ ذلك الحين لقب المتنبي وليست مصادفة أننا أمة قيل في نبيها إنه شاعر وقيل في شاعرها إنه نبي فإن الارتباط بين الفصاحة والسلطة السياسية في تاريخنا جلي لكل من يقرؤه. تنقل المتنبي بين أمراء الشام يمدحهم وحين كان ابن 33 سنة مر بطرابلس في طريقه من الرملة إلى أنطاكية ووالي طرابلس من قبل المقتدر العباسي رجل اسمه إسحق بنُ إبراهيم بن كيغَلغ فأراد الوالي من المتنبي أن يمدحه فاعتذر المتنبي بأن عليه قسماً ألّا يمدح أحداً لمدة فمنعه الوالي من مواصلة الطريق حتى تنقضي تلك المدة وضبط عليه الطرق وأقام عليها الحواجز فهجاه أبو الطيب وهو بعد في طرابلس وتحت يده بالقصيدة التي تعرف أنت بعض أبيات الحكمة فيها والتي ذهبت مثلاً :
لِهَوى النُّفوسِ سَريرَةٌ لا تُعلَمُ عَرَضاً نَظَرتُ وَخِلتُ أَنّي أَسلَمُ
راعَتكِ رائِعَةُ البَياضِ بِعارِضي ولو اَنَّها الأولى لَراعَ الأَسحَمُ
لَو كانَ يُمكِنُني سَفَرتُ عَنِ الصِبا فَالشَيبُ مِن قَبلِ الأَوانِ تَلَثُّمُ
وَالهَمُّ يَختَرِمُ الجَسيمَ نَحافَةً وَيُشيبُ ناصِيَةَ الصَبِيِّ وَيُهرِمُ
ذو العَقلِ يَشقى في النَعيمِ بِعَقلِهِ وَأَخو الجَهالَةِ في الشَقاوَةِ يَنعَمُ
لا يَخدَعَنَّكَ مِن عَدُوٍّ دَمعُهُ وَارحَم شَبابَكَ مِن عَدُوٍّ تَرحَمُ
لا يَسلَمُ الشَرَفُ الرَفيعُ مِنَ الأَذى حَتّى يُراقَ عَلى جَوانِبِهِ الدَّمُ
يُؤذي القَليلُ مِنَ اللِئامِ بِطَبعِهِ مَن لا يَقِلُّ كَما يَقِلُّ وَيَلؤُمُ
والظُلمُ مِن شِيَمِ النُفوسِ فَإِن تَجِد ذا عِفَّةٍ فَلِعِلَّةٍ لا يَظلِمُ
ثم يقول في ابن كيغلغ بيتين يصعب إنشادهما هاهنا وبعدهما يقول له وهو الوالي صاحب الجند والحرس والمتنبي في بلده وتحت يده :
ارفُق بِنَفسِكَ إِنَّ خَلقَكَ ناقِصٌ وَاستُر أَباكَ فَإِنَّ أَصلَكَ مُظلِمُ
وَمِنَ البَليَّةِ عَذلُ مَن لا يَرْعَوي عَن غيِّهِ وَخِطابُ مَن لا يَفهَمُ
وَإِذا أَشارَ مُحَدِّثاً فَكَأَنَّهُ قِردٌ يُقَهقِهُ أَو عَجوزٌ تَلطمُ
يقلى مُفارَقَةَ الأَكُفِّ قَذالُهُ حَتّى يَكاد على يَدٍ يَتَعَمَّمُ
وَتَراهُ أَصغَرَ ما تَراهُ ناطِقاً وَيَكونُ أَكذَبَ ما يَكونُ وَيُقسِمُ
وَالذُلُّ يُظهِرُ في الذَليلِ مَوَدَّةً وَأَوَدُّ مِنهُ لِمَن يَوَدُّ الأَرقَمُ
وَمِنَ العَداوَةِ ما يَنالُكَ نَفعُهُ وَمِنَ الصَداقَةِ ما يَضُرُّ وَيُؤلِمُ
وإن في هجاء كهذا لوالٍ مسلح قدراً من الخطر غير قليل. ثم انتظر المتنبي حتى ذاب الثلج على جبل لبنان وتوعر الطريق حتى وصل إلى أنطاكية ومدح أبا العشائر بن حمدان عم سيف الدولة أمير حلب فعرفه أبو العشائر منبهراً على ابن أخيه وسواء كان المتنبي يقصد سيف الدولة لأنه كان معروفاً بحبه للشعر أو لأنه كان كريماً ممدحاً فإن الأكيد أن جهاده ضد البيزنطيين ميزه في عين أبي الطيب وفي عين جمهور الناس في زمانه عن غيره من الملوك الذين لم يكن لهم دأب سوى محاربة بعضهم بعضاً وسرقة رعاياهم.
هنا بدأ عصر أبي الطيب الذهبي حيث نمت بينه وبين سيف الدولة صداقة حقة وكان يشهد معه وقعات القتال فقال فيه :
رأيتك في الذين أرى ملوكاً كأنك مستقيم في محال
فإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
وقد عاشت قصائده في وصف حروب سيف الدولة والروم لأنها كانت وكأنها تصف الحروب الصليبية التي بدأت في القرن التالي واستمرت لقرنين من الزمان ثم ما إن انتهت الحروب الصليبية حتى لحقتها حروب السلاجقة ثم العثمانيين مع الروم والفرنجة وهذه استمرت إلى الحرب العالمية الأولى والاستعمار الحديث وقيام إسرائيل فكأن المتنبي كان شاعر هذه الحروب كلها أما أمر تركه حلب ووروده مصر ومدحه كافور ثم هجائه فسببه أن أبا الطيب كان يطمح في الولاية أي في أن يكون له مدينة أو حصن وجنود فيغيِّر بنفسه الواقع السياسي الذي كان كارهاً له منذ صغره بل إنه صرح بأن بعض من مدحهم من الملوك قبل سيف الدولة يستحقون أن يحاربهم وينظم لهم قصائد أبياتها من خيول وفرسان :
مدحت قوماً ولو عشنا نظمت لهم قصائداً من إناث الخيل والحصن
ولم يكن سيف الدولة ولا غيره يأمنون أن يتولى هذا الشاعر الفصيح الطموح السلطة فالملوك يجودون بكل شيء عدا الملك مهما كان المجود عليه صديقاً وكان سيف الدولة يغدق على المتنبي فيعطيه أكثر ممّا يعطي جميع الشعراء مجتمعين مقابل ثلاث قصائد في السنة فحسب ومع ذلك كان المتنبي يتأخر في كتابة القصائد حتى أنه اعتذر عن تأخره شعراً.
وقد تقبل العذر الخفي تكرماً فما بال عذري واقفاً وهو واضح؟
وما كان ترك الشعر إلا لأنه تقصر عن وصف الأمير المدائح
كان سيف الدولة يغيظ المتنبي إذا تأخر. بتقديم غيره ممّن لا خير فيه من الشعراء عليه وكان المتنبي معجباً بنفسه يشترط ألّا ينشد الشعر إلا جالساً كالملوك لا واقفاً كالشعراء فكان تقديم غيره عليه شديداً فلما زاد ذلك عليه أنشد قصيدته المشهورة معاتباً فيها سيف الدولة :
واحَرَّ قَلباهُ مِمَّن قَلبُهُ شَبِمُ وَمَن بِجِسمي وَروحي عِندَهُ سَقَمُ!
ما لي أُكَتِّمُ حُباًّ قَد بَرى جَسَدي وَتَدَّعي حُبَّ سَيفِ الدَولَةِ الأُمَمُ؟
إِن كانَ يَجمَعُنا حُبٌّ لِغُرَّتِهِ فَلَيتَ أَنّا بِقَدرِ الحُبِّ نَقتَسِمُ
يا أَعدَلَ الناسِ إِلّا في مُعامَلَتي فيكَ الخِصامُ وَأَنتَ الخَصمُ وَالحَكَمُ
سيعلُم الجمعُ ممن ضمَّ مجلسُنا بأنني خيرُ من تسعى به قَدَمُ
أَنا الَّذي نَظَرَ الأَعمى إِلى أَدَبي وَأَسمَعَت كَلِماتي مَن بِهِ صَمَمُ
أَنامُ مِلءَ جُفوني عَن شَوارِدِها وَيَسهَرُ الخَلقُ جَرّاها وَيَختَصِمُ
وَجاهِلٍ مَدَّهُ في جَهلِهِ ضَحِكي حَتّى أَتَتهُ يَدٌ فَرّاسَةٌ وَفَمُ
إِذا رأيتَ نُيوبَ اللَيثِ بارِزَةً فَلا تَظُنَّنَّ أَنَّ اللَيثَ يبتَسِمُ
الخَيلُ وَاللَيلُ وَالبَيداءُ تَعرِفُني وَالسَيفُ وَالرُمحُ وَالقِرطاسُ وَالقَلَمُ
يا مَن يَعِزُّ عَلَينا أَن نُفارِقَهُم وِجدانُنا كُلَّ شَيءٍ بَعدَكُم عَدَمُ
ما كانَ أَخلَقَنا مِنكُم بِتَكرمَةٍ لَو أَنَّ أَمرَكُمُ مِن أَمرِنا أَمَمُ
إِن كانَ سَرَّكُمُ ما قالَ حاسِدُنا فَما لِجُرحٍ إِذا أَرضاكُمُ أَلَمُ
وَبَينَنا لَو رَعَيتُم ذاكَ مَعرِفَةٌ إِنَّ المَعارِفَ في أَهلِ النُهى ذِمَمُ
كَم تَطلُبونَ لَنا عَيباً فَيُعجِزُكُم وَيَكرَهُ اللَهُ ما تَأتونَ وَالكَرَمُ
ما أَبعَدَ العَيبَ وَالنُقصانَ عَن شَرَفي أَنا الثُرَيَّا وَذانِ الشَيبُ وَالهَرَمُ
لَيتَ الغَمامَ الَّذي عِندي صَواعِقُهُ يُزيلُهُنَّ إِلى مَن عِندَهُ الدِيَمُ
أَرى النَوى تَقتَضيني كُلَّ مَرحَلَةٍ لا تَستَقِلُّ بِها الوَخّادَةُ الرُسُمُ
لَئِن تَرَكنَ ضُمَيراً عَن مَيامِنها لَيَحدُثَنَّ لمن فارقنهم ندمُ
ويُروى :
ليحدثن بسيف الدولة النَدَمُ
إِذا تَرَحَّلتَ عَن قَومٍ وَقَد قَدَروا ألّا تُفارِقَهُم فَالراحِلونَ هُمُ
شَرُّ البِلادِ مَكانٌ لا صَديقَ بِه وَشَرُّ ما يَكسِبُ الإِنسانُ ما يَصِمُ
هَذا عِتابُكَ إِلّا أَنَّهُ مِقَةٌ قَد ضُمِّنَ الدُرَّ إِلّا أَنَّهُ كَلِمُ
فلما أنشدها وفيها من الجرأة ما فيها إذ وقف بين العتاب والتهديد. حاول حساده التذرع بذلك ووقفوا له خارج القصر وحاولوا قتله بالقسي والسهام. وكان معه سيفه فكر عليهم وقطع قوس أحدهم وأسرع سيفه في ذراعه فهربوا عنه وصاحوا من بعيد : نحن غلمان أبي العشائر. فلم يكن واضحاً إن كانوا صادقين أم كاذبين واتصلت المراسلات من سيف الدولة وأبي العشائر إلى المتنبي ينفيان أن يكونا أمرا بشيء من ذلك أو علما به. لكن كان من الواضح أن بقاء أبي الطيب في حلب لكن كان من الواضح أن بقاء أبي الطيب في حلب لكن كان من الواضح أن بقاء أبي الطيب في حلب أصبح خطراً على حياته فحينئذ غادرها.
كانت بدائل أبي الطيب بعد الشام مُلك البويهيين في فارس وهم غير عرب يحكمون غير عرب وملك الإخشيديين في مصر وهم غير عرب يحكمون عرباً فاستقرب مصر أرضاً ولساناً ووردها وحاكمها حينئذ عبد اسمه كافور كان أوصاه والي مصر السابق محمد بن طغج الإخشيد أن يرعى ابنه فسلب الملك لنفسه ومع ذلك رجا المتنبي أن كافوراً هذا يعطيه ما لم يعطه سيف الدولة أي الولاية وصرح بذلك في شعره تصريحاً : إذا لم تُنِطْ بي ضيعة أو ولاية فجودك يكسوني وشغلك يسلب وقال : إن قلبي من الملوك وإن كان لساني يُرى من الشعراء.
لكن كافوراً كان أشبه بإسحق بن كيغلغ منه بسيف الدولة روي عنه أنه قال لوزرائه حين نصحوه بأن يمنح أبا الطيب بعض ولايات الصعيد: يا قوم من ادعى النبوة بعد محمد ألا يدعي المملكة بعد كافور؟ فلم يعطه ما أراد بل ومنعه الخروج من مصر لأنه يريد ألّا يمدح غيره ولعلمه أن أبا الطيب إذا خرج من مصر سيهجوه وقد كان، إذ خرج أبو الطيب على الرغم من تشديد الحراسة عليه وضبط أبواب الفسطاط فلما صار في طريق العراق قال :
أَلا كُلُّ ماشِيَةِ الخَيزَلَى فِدا كُلِّ ماشِيَةِ الهَيذَبى
والخيزلى مشية المرأة المتدللة والهيذبى مشية الإبل إذا أسرعت فهو يفدِّي الإبل التي نجا عليها من مصر ثم يقول بعد أن يسمي المواضع التي مر بها في طريق خروجه :
وَبِتنا نُقَبِّلُ أَسيافَنا وَنَمسَحُ عنها دِماء العِدا
لِتَعلَمَ مِصرُ وَمَن بِالعِراقِ وَمَن بِالعَواصِمِ أَنّي الفَتى
وَأَنّي وَفَيتُ وَأَنّي أَبَيتُ وَأَنّي عَتَوتُ عَلى مَن عَتا
وَما كُلُّ مَن قالَ قَولاً وَفى وَلا كُلُّ مَن سيمَ خَسفاً أَبى
وَنامَ الخُوَيدِمُ عَن لَيلِنا وَقَد نامَ قَبلُ عَمىً لا كَرى
والخويدم هنا كافور الملك.
وَكانَ عَلى قُربِنا بَينَنا مَهامِهُ مِن جَهلِهِ وَالعَمى
وَماذا بِمِصرَ مِنَ المُضحِكاتِ! وَلَكِنَّهُ ضَحِكٌ كَالبُكا
وَشِعرٍ مَدَحتُ بِهِ الكَركَدَنَّ بَينَ القَريضِ وَبَينَ الرُّقى
فَما كانَ ذَلِكَ مَدحاً لَهُ وَلَكِنَّهُ كانَ هَجوَ الوَرى
وَقَد ضَلَّ قَومٌ بِأَصنامِهِم فَأَمّا بِزِقِّ رِياحٍ فَلا
وَمَن جَهِلَت نَفسُهُ قَدرَهُ رَأى غَيرُهُ فيه ما لا يَرى
ثم قال قصيدته الدالية الشهيرة التي أصبحت هجاء لكل كافور بعد كافور إلى يومنا هذا :
عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ! بما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ
أَمّا الأَحِبَّةُ فَالبَيداءُ دونَهُمُ فَلَيتَ دونَكَ بيداً دونَها بيدُ
ماذا لَقيتُ مِنَ الدُنيا وَأَعجَبُهُ أَنّي بِما أَنا شاكٍ مِنهُ مَحسودُ
أَمسَيتُ أَروَحَ مُثرٍ خازِناً وَيَداً أَنا الغَنِيُّ وَأَموالي المَواعيدُ
إِنّي نَزَلتُ بِكَذّابينَ ضَيفُهُمُ عَنِ القِرى وَعَنِ التَرحالِ مَحدودُ
جودُ الرِجالِ مِنَ الأَيدي وَجودُهُمُ مِنَ اللِسانِ فَلا كانوا وَلا الجودُ
أَكُلَّما اغْتالَ عَبدُ السوءِ سَيِّدَهُ أَو خانَهُ فَلَهُ في مِصرَ تَمهيدُ؟
نامَت نَواطيرُ مِصرٍ عَن ثَعالِبِها وقَد بَشِمنَ وَما تَفنى العَناقيدُ
وأنت تعرف بقية القصيدة ولا شك فهجاؤه لكافور لم يكن لمنع كافور عنه العطاء بل لمنعه من السفر وحبسه عليه في مصر وهي إهانة لم تكن نفس المتنبي تقبلها وحبه لسيف الدولة لم يكن لكثرة العطاء فحسب بل لأن سيف الدولة كاد يساويه بنفسه فأن يخرج من حلب وهذه حاله إلى مصر فيحبسَ فيها ويجبرَ على قول الشعر إجباراً.
كان غباوة من كافور استحق عليها من الهجاء ما ننشده نحن اليوم بعد ألف سنة من ملكه أما بيته “لا تشتري العبد” فقد عاش طويلاً وحفظه الناس لا لعنصرية المتنبي أو لعنصرية رواته وقارئيه فالمتنبي إن كان هجا كافوراً بلونه فقد كان مدحه بلونه من قبل وقال يصف الإبل التي حملته من الشام إلى مصر :
قواصدَ كافور تواركَ غيرِه ومن قصد البحر استقل السواقيا
ورَدْن بنا إنسان عين زمانه وخلت بياضاً خلفها ومآقيا
بل عاش البيت لأنه لم يقل في هجاء عبد بل في هجاء ملك ولأن الأمة لم تلبث أن وقعت كلها تحت حكم طائفة من الملوك العبيد أعني سلاطين المماليك. وقد حكموا الناس في مصر والشام تسعة قرون بعد المتنبي ولم يكونوا أعدل الملوك ولا أرحمهم فكان كلما اغتاظ رجل من سلطان من المماليك أيام سلطنتهم أو من حاكم محلي مملوكي أيام العثمانيين أنشد بيت المتنبي ولما كانت مصر قاعدة المماليك وكانت القصيدة تذكر نهب حكام مصر لأهلها “نامت نواطير مصر عن ثعالبها” فإن عمر القصيدة طال إلى أيامنا هذه.
لم يبق لأبي الطيب من بلاد المشرق بعد مصر والشام إلا العراق وهو وفارس كانا في حكم بني بويه وكانوا كسيف الدولة يحتفون بالعلماء والشعراء إلا أن أكثر أهل بلادهم لا يتقنون العربية. ووطن الشاعر لغته فقال أبو الطيب قصيدته المعروفة “مغاني الشعب” يمدح جمال البلاد ويتحسر لأنه في بلد لا يفهم فيها الناس ولا يفهمونه فصارت قصيدته تلك قصيدة كل المنفيين والمغتربين العرب في بلاد كثيفة الأشجار جميلة المعمار لا ينطق أهلها بالعربية إلى اليوم يقول في وصف شعب بوان من بلاد فارس :
مَغاني الشِّعبِ طيباً في المَغاني بِمَنزِلَةِ الرَبيعِ مِنَ الزَمانِ
وَلَكِنَّ الفَتى العَرَبِيَّ فيها غَريبُ الوَجهِ وَاليَدِ وَاللِسانِ
مَلاعِبُ جِنَّةٍ لَو سارَ فيها سُلَيمانٌ لَسارَ بترجمانِ
طَبَت فُرسانَنا وَالخَيلَ حَتّى خَشيتُ وَإِن كَرُمنَ مِنَ الحِرانِ
غَدَونا تَنفُضُ الأَغصانُ فيها عَلى أَعرافِها مِثلَ الجُمانِ
فَسِرتُ وَقَد حَجَبنَ الشَمسَ عَنّي وَجَئنَ مِنَ الضِياءِ بِما كَفاني
وَأَلقى الشَرقُ مِنها في ثِيابي دَنانيراً تَفِرُّ مِنَ البَنانِ
لَها ثَمَرٌ تُشيرُ إِلَيكَ مِنهُ بِأَشرِبَةٍ وَقَفنَ بِلا أَوانِ
وَأَمواهٌ تَصِلُّ بِها حَصاها صَليلَ الحَليِ في أَيدي الغَواني
وَلَو كانَت دِمَشقَ ثَنى عِناني لَبيقُ الثردِ صينِيُّ الجِفانِ
تَحِلُّ بِهِ عَلى قَلبٍ شُجاعٍ وَتَرحَلُ مِنهُ عَن قَلبٍ جَبانِ
إِذا غَنّى الحَمامُ الوُرقُ فيها أَجابَتهُ أَغانِيُّ القِيانِ
وَمَن بِالشِعبِ أَحوَجُ مِن حَمامٍ إِذا غَنّى وَناحَ إِلى البَيانِ
وَقَد يَتَقارَبُ الوَصفانِ جِداًّ وَمَوصوفاهُما مُتَباعِدانِ
يَقولُ بِشِعبِ بَوّانٍ حِصاني أَعَن هَذا يُسارُ إِلى الطِّعانِ؟
أَبوكُم آدَمٌ سَنَّ المَعاصي وَعَلَّمَكُم مُفارَقَةَ الجِنانِ!
ويقال إنه أول ما ورد فارس أرسل سلطانها عضد الدولة البويهي من يستقبله في ظاهر البلد فطلب منه من أُرسل إليه أن ينشده بعض شعره فأنشده قصيدته التي قالها في خروجه من مصر “ألا كل ماشية الخيزلى” فلما علم بذلك عضد الدولة قال :
يهددنا أبو الطيب أي كأن أبا الطيب يقول لعضد الدولة : إن عاملتني كما عاملني كافور قلت فيك ما قلت فيه. فلما خرج أبو الطيب من فارس قُتل وأكثر الروايات أن قتله كان لهجوه قاطع طريق يدعى ضبة فخرج عليه أخواله وقتلوه ولكن لدي شكاً ما في أن يكون قتله مدبراً من ملك ما لم يرد أن يمدح أبو الطيب غيره..وتطل على الناس شجاعته وجنونه وربما يأسه ممّا بقي من عمره في القصة الشهيرة عن مقتله أنه لما خرج عليه القتلة أفلت منهم فناداه أحدهم وفي رواية ناداه غلامه : أتجبن وأنت القائل : “الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم”؟
فقال المتنبي : قتلتني يا غلام وعاد للمعركة حتى قتل شهيداً دون أهله وماله وقتل معه ابنه المُحَسَّد كان هذا كله استثنائياً في زمانه. فقد كان زمنُ الشعراء المحاربين انتهى منذ قرنين من الزمان تقريباً أي منذ انتهاء حروب الخوارج مع الأمويين لذلك فإن حياة أبي الطيب ألهمت الناس كشعره سواء بسواء ومن لا يرى استثنائية حياته لا يراه ولا يعرفه وقد اعترف له من تلاه من الشعراء بهذا وشرح ديوانه أعظم الشعراء بعده أبو العلاء المعري لا أقل وكان هذا استثنائياً أيضاً أن يشرح شاعر كبير ديوان شاعر كبير سبقه وزاد أبو العلاء فسمى ديوان المتنبي “معجز أحمد” تيمناً بالقرآن فهو معجز أحمد أيضاً لقد كان المتنبي يقول الشعر كما يقول أبي بخطاه على الأرض وبأنفاسه في الريح لا بلسانه وأقلامه فحسب ولذلك فإن كثيراً من الحكام والحكومات لا يستريحون إليه إلى يوم الناس هذ.