ماجد الماجد – موطني نيوز
أتقن 17 لغة، حمل جنسية 15 بلدا، تزوج 290 مرة، أنجب 365 ابناً ذكرا، أما الإناث فلا يتذكر عددهن، ليس سلطاناً ولا رئيساً، لكنه كان صديقا لبعضهم، والتقى كثير منهم، على رأسهم هتلر بل وأقنعه ببث تلاوات القرآن
إنه يونس بحري، ماقصته؟ ولماذا حُكم عليه بالإعدام 4 مرات؟
في أحد أيام بغداد الصيفية من عام 1958، وبينما يونس بحري يطالع واجهة مكتبة شيوعية بشارع الرشيد، إذ تقدم نحوه ضابط وقال له: (هل أنت يونس بحري؟) قال: (نعم)، فأشار إلى سيارة جيب عسكرية في الجوار، فصعد يونس إليها دون كلام، لتنطلق بهما إلى مبنى وزارة الدفاع.
يقول يونس: هناك قال لي رئيس التحقيق بالوزارة وهو يقدّم لي رسالة مكتوبة بخط مرتجف باهت: (أتعرف خط من هذا؟) قلت: (هذا خط ابني سعدي) وبعد أن أشار إليّ بالجلوس وضع الرسالة أمامي، فقرأت ما نصه: (سيادة الحاكم العسكري العام، باسم المقاومة الشعبية أحتج على إطلاق سراح والدي يونس بحري..)
(فهذا الرجل -يقصد أبيه- كان جاسوساً لبريطانياً في برلين، ثم انتقل إلى باريس وصار جاسوساً للفرنسيين، إن والدي جاسوس مزدوج ومقامر وعربيد، وهو يستحق السجن إلى الأبد.. أو الموت. (الإمضاء.. سعد يونس بحري).
جاسوس، إذاعي، نازي، راقص، رحالة، مفتي، صحافي، ضابط، كاتب، سباح، سياسي، ألقاب كثيرة نالها يونس بحري خلال مسيرته، رغم تناقضها الشديد واختلافها، إلا أنه رجل امتلأت حياته بالمفارقات، فقد ولد في الموصل مع بدايات القرن الماضي، لأب يعمل ضابطا في الجيش العثماني.
مثل أبيه تخرج يونس ضابطاً من المدرسة الحربية في إسطنبول، ومنها سافر إلى ميونخ في العشرينيات الميلادية، حيث أكمل دراسته هناك في المدرسة الحربية للخيّالة، وهناك التقى أدولف هتلر، لكن التقاه حينذاك كرسام فقير معدم يقدم أعماله لجمهور الشارع على الجدارن، فنشأت بينهما صداقة ستبقى وستظل.
مع عودته للعراق لم يجد فرصته في العمل، وحينها كان السفر والترحال قد سيطرا على خياله حيث قرر في نهاية عام 1923 الخروج من العراق في رحلة حول العالم، فاتجه شرقا نحو إيران، ومنها إلى أفغانستان والهند وصولاً إلى الشرق الأقصى وإندونيسيا ثم مر بالصين واليابان، ومنها عبر البحر إلى أمريكا.
ثم عبر المحيط الأطلسي لأوروبا، حيث زار بريطانيا وبلجيكا وهولندا وفرنسا وألمانيا، قبل أن يبحر باتجاه مصر، حيث تعرف هناك على أدبائها ومثقّفيها ووثق علاقته معهم وكتب في صحافتها، قبل أن يعود إلى العراق في عام 1925، وهو ملء السمع والبصر، مشهورا معروفا في الصحافة باسم السائح العراقي.
مكث يونس سنوات في بغداد قبل أن يقرر إكمال جولته حول العالم عام 1929، وقد اتخذ من السعودية بوابة لهذه الجولة، حيث عبر إلى الإحساء ونجد والحجاز وعسير والربع الخالي وحده مشياً على الأقدام، وخلال تواجده فيها التقى الملك عبدالعزيز آل سعود.
عاود المسير نحو أفريقيا ومنها إلى أوروبا، حيث حصل على جواز سفر ألماني، ومع وصوله إنكلترا صادف هناك مسابقة سباحة لعبور بحر المانش، ودون استعداد أو تدريب قرر يونس المشاركة باسم العراق، وفي سابقة تاريخية استطاع يونس عبور المانش والفوز بالمركز الأول، ومن حينها عُرِف بيونس بحري.
ما بين عامي 1935 و 1939 استقر البحري في العراق، حيث عمل صحافيا في جريدة العقاب، ومذيعا في إذاعة قصر الزهور، حيث كان صديقا مقربا للملك غازي ملك العراق، وبمثابة صوتاً رسميا ينطق باسمه، قبل أن يقضي الملك في حادثة سيارة عام 1939، وهي الحادثة التي مثلت منعرجا حادا في حياته.
مع إشارته في مقال له إلى فرضية الاغتيال من قبل الإنجليز في حادثة موت الملك، قرر الإنجليز ملاحقة يونس والقبض عليه، لكن كان للقنصل الألماني في بغداد رأي آخر، حيث استبق خطوات الإنجليز، وقام بتهريب يونس عبر جواز ألماني أصدره له.
وصل يونس برلين والحرب العالمية الثانية على وشك الانفجار، والدعاية النازية في أوجها، وهناك التقى بوزير الدعاية النازي باول جوزف غوبلز، وعبره استطاع ملاقاة هتلر صديقه القديم، والذي أسند إليه دورا مهماً في إذاعة برلين العربية الناطقة باسم النازيين والموجهة للعرب.
حيث عمل بها مذيعا، واشتهر بجملته الشهيرة بها، “هنا برلين.. حيّ العرب” وخلال عمله في الإذاعة، كان يروّج للدعاية النازية والخطاب العدائي لبريطانيا وحلفائها ويستميل العرب لصالح النازية، وبهذا أصبح مقربا من القيادة الألمانية، والتي منحته رتبة مارشال، كما ساعده ذلك في لقاء الزعيم الفاشي موسوليني وصداقته.
في خضم الحرب العالمية الثانية كانت إذاعة برلين تحاول سحب البساط من تحت أقدام إذاعة بي بي سي البريطانية، وقد كان ليونس رأيا في ذلك، حيث اقترح على هتلر أن تبدأ الإذاعة الألمانية ببث آيات قرآنية في بداية بثها لجذب المسلمين، وهو ما وافق عليه هتلر، وقد كان لذلك صدى كبيرا في جذب الانتباه لها.
مع انتهاء الحرب العالمية وهزيمة النازية، عاد يونس هاربا من أوروبا إلى المغرب، ومنها التجأ إلى شرق الأردن، حيث كان الصديق المقرب لملكها حينذاك، لكنه انقلب عليه وسافر إلى مصر في الخمسينيات، وهناك التقى جمال عبدالناصر وأنور السادات، قبل أن يعود مجددا إلى العراق بعد صلحه مع ملكها وملك الأردن.
لكن لحظه العاثر، واكب وصوله إلى بغداد قيام ثورة 14 تموز 1958، وهي الثورة التي اعتبرته نصيرا للملكية ووجهاً للاستعمار، فجرى القبض عليه، وزج به في السجن، وحكم عليه لاحقا بالإعدام، ثم خفف إلى المؤبد، ثم أُطلق سراحه عام 1959 بعد وساطات من زعماء وقادة عرب وأجانب.
مع خروجه من السجن، تعثرت به الطرقات، ولم يجد نفسه مُرحبا به في أي عمل، فعمل يونس طباخا في مطعم (بوران) في بغداد بشارع الرشيد، قبل أن يطارده نظام عبد الكريم قاسم مرة أخرى نظرا لنشاطاته السياسية، فاضطر إلى الهروب مرة أخرى من العراق نحو لبنان التي أقام بها مدة من الزمن.
هنا تضاءلت حياة يونس وبدأ نجمه في الخفوت، واكتشف كم مضى من العمر، حينها عمد إلى توثيق حياته في عديد من المؤلفات التي انكب على كتاباتها، فصدر له كثير من الكتب والمذكرات التي أرخ فيها لحياته ورحلاته ومفارقاته المثيرة، وعاد الرجل بعد أمد إلى العراق واستقر في بغداد.
خلال توثيقه لحياته عرض الرجل لكثير من المفارقات والتناقضات التي عاشها في حياته، حيث كان معروفا في كل بلد بوظيفة وشكل مختلف، ففي الهند عمل راهبا في نفس الوقت الذي عمل فيه راقصا، وفي إندونسيا عمل مؤذنا وخطيبا بالنهار، فيما عرفته الخمارات كسكير في الليل.
وكانت من عاداته الزواج في كل بلد يحط إليه، فذكر في مذكراته زواجه من قرابة 300 امرأة، من بينهم 90 زواجاً شرعيا، والبقية كان مدنيا، وهو ما دفع ابنه سعدي يونس الفنان المسرحي الراحل، إلى التصريح قائلاً، “أحاول دائما البحث عن إخوة لي من أبي متناثرين في أنحاء المعمورة.”
أما ابنته منى يونس بحري أستاذة علم النفس في جامعة بغداد، فقالت “سمعت أن لي أخاً يقود الأسطول الفلبيني برتبة أدميرال، واسمه رعد يونس بحري” وهو الأمر الذي أكده يونس بحري في مذكراته حين حدد عدد أبنائه حول العالم بـ 365 ابناً ذكرا، أما الإناث فصرح بأنه لا يتذكر عددهن.
كان زواجهُ لأول مرة من امرأة موصلية اسمها مديحة، وأنجب منها إبنين هما لؤي وسعدي، وبنت واحدة هي منى يونس الدكتورة في علم النفس في جامعة بغداد، وصار لؤي دكتورا في علوم الكيمياء في الولايات المتحدة أما سعدي فاشتهر كمحامي وحقوقي، ومن أولاده الفنان العراقي المعروف هاني هاني.
من المفارقات أثناء عمله في باريس عام 1954، أنه تراكمت عليه الضرائب بشكل كبير، فطالبته البلدية 3 ملايين فرنك، ومع معرفته بأن من لديه أبناء أكثر من 12 يعفى من الضرائب، فقد ذكر لهم أسماء 45 ابناً له فقط في فرنسا، وحدد عناونيهم، وجمعتهم البلدية للتحقق من صدقه وأعفته بالفعل من الضرائب.
في أواخر أيامه مكث يونس في بغداد فقيرا معدما يزوره البعض من حين لآخر، من بينهم زائر استعرض أمامه كيف خدع أفراد شرطة الحدود وهرب بعض المواد عبر حدود العراق مع تركيا، وبعد مغادرة هذا الزائر قال يونس بحري: (ضحكنا على ذقون ملوك ورؤساء سنين طويلة وهذا يتفاخر بأنه خدع شرطياً).
سيطر الفقر على حياة يونس، حتى أنه اضطر في أواخر أيامه للإقامة في منزل ابن عمهِ الصحفي نزار محمد زكي، ولم يمض كثير من الوقت حتى توفي في مستشفى الراهبات في بغداد عام 1979، على إثر دهسه من قبل إحدى السيارات المسرعة، ولشدة فقره، تكفلت البلدية بإجراءات ومصاريف دفنه.
يقول سامي البدري على لسانه في روايته “يونس بحري وموانئ الليل”: هل كنت أفكر في النساء حينها، نعم، وكثيرا ولكن ليس بطريقة المالك أو السطان، بل بطريقة الغازي الذي يريد أن يترك نقش اسمه على كل حجر ثمين تزين به امرأة إصبعها بحب واعتزاز، ويمضي كملك مغرور لا يجد الوقت لكل أشيائه الثمينة.
يعلل سامي البدري أيضا وقوع النساء في حب البحري قائلا على لسانه: “كل ما في الأمر هو أن سحرا خفيا في تكويني كان يجذبهنّ إليّ لم يكن صفةً، ولا شيئا محدَّدًا، فكل امرأة كانت ترى حجرًا خاصًّا بها في شخصيتي وتبني عليه ما تريده من خيالها.
رثاه الشاعر الكويتي خالد الفرج بقصيدة من 64 بيتا جاء فيها..
سرى يقطع الدنيا ويذرع أرضها
تقاذفه وديانها ووعورها
تزمهره فوق الجبال ثلوجها
ويلفحه بين الصحاري هجيرها
ويسري كأن الريح أعطته طبعها
يسابقها وهي السريع مرورها
ويشرق مثل النجم في كل بلدة
يحادثه عمرانها ودثورها