الاغتيال الاقتصادي حين يحوّل صندوق النقد القروض إلى سيطرة

المصطفى الجوي

المصطفى الجوي – موطني نيوز

عندما أتأمل في التاريخ، أرى بوضوح أن الديون كانت دائماً الأداة الأكثر فتكاً لإسقاط الإمبراطوريات، تماماً كما حدث مع الإمبراطورية الإسبانية التي غرقت في قروضها وانهارت. وهذا الدرس التاريخي، في تقديري، هو المفتاح لفهم النظام العالمي الحالي. فالدول، مع الأسف، لا تزال تسير بإرادتها نحو نفس المصيدة. من وجهة نظري، أدرك الغرب، وتحديداً الولايات المتحدة، هذه الحقيقة مبكراً؛ لقد فهموا أن السيطرة الحقيقية على العالم لا تأتي بالقوة العسكرية والسياسية وحدها، بل بالاقتصاد.

في تحليلي، كانت اللحظة الحاسمة هي مؤتمر “بريتون وودز” عام 1945. هناك، أرى أن أمريكا لم تكن تضع نظاماً نقدياً عالمياً جديداً فحسب، بل كانت ترسي أسس هيمنتها عبر فرض الدولار كعملة عالمية، والأهم من ذلك، عبر تأسيس صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. هذه المؤسسات، التي أُسست لتظهر كمؤسسات دولية مستقلة، أعتبرها في الحقيقة أدوات في يد الهيمنة الأمريكية الأوروبية. فالاتفاق على أن رئاسة البنك الدولي لأمريكا والصندوق لأوروبا ليس صدفة، كما أن امتلاك أمريكا لنسبة 16.5% من رأس مال الصندوق يمنحها، في نظري، حق “فيتو” فعلي يعرقل أي قرار لا يخدم مصالحها، نظراً لاشتراط أغلبية 85% للتصويت.

من هنا، أرى أن صندوق النقد تحول من مؤسسة إقراض إلى أداة فعالة للإيقاع بالدول النامية. وهو ما يؤكد أن السيناريو يبدأ دائماً بإغراءات القروض منخفضة الفائدة، ثم ما يلبث أن يتحول إلى فرض تغييرات اقتصادية جذرية أعتبرها مدمرة لمصالح هذه الدول، والهدف النهائي، كما أراه، هو الاستحواذ على اقتصادها، ومن ثم قرارها السياسي.

دعوني أسرد لكم أمثلة أجدها كاشفة للحقائق و لنأخذ زامبيا مثلا، كدولة كانت تتمتع باكتفاء ذاتي زراعي. لقد أجبرها الصندوق، كشرط لقرضه، على إلغاء التعرفة الجمركية على الغذاء. وكانت النتيجة، كما حللتها، كارثية، إغراق السوق بالمنتجات الأوروبية، وانهيار المزارع المحلي، وتحول زامبيا من دولة مكتفية إلى مستوردة للغذاء. الهدف الحقيقي في تقديري كان مجرد إيجاد سوق للمنتجات الغربية. وأنا أرى نفس النمط يتكرر في البيرو؛ حيث اشترط الصندوق السماح باستيراد القمح الأمريكي، مما دمر مزارعي القمح المحليين ودفعهم، للمفارقة المأساوية، إلى زراعة المخدرات.

إن الوصفة التي أرى الصندوق يقدمها دائماً هي نفسها، سياسات تقشف قاتلة، رفع الدعم عن أساسيات الحياة كالخبز والزيت و السكر والمحروقات والصحة والتعليم، وفرض الخصخصة. وفي تحليلي، هذا المسار لا يؤدي إلا إلى إفقار الشعوب وانهيار الاقتصادات، وعند هذه النقطة، تصبح الدولة المفلسة بلا قرار سيادي. لكني أشدد على أن هذا المسار لم يكن حتمياً على الدوام. أستشهد هنا بالتجربة الماليزية بقيادة مهاتير بن محمد. عندما واجهت ماليزيا الأزمة المالية في نهاية التسعينات، عُرضت عليها مساعدة الصندوق. لكن الرئيس الماليزي رفض، وقال، وهو ما أتفق معه، إن قبول المساعدة يعني تسليم الاقتصاد الماليزي للخارج. بدلاً من ذلك، اعتمدت ماليزيا على مواردها الذاتية، وبالفعل، أرى كيف تحولت من دولة فقيرة تعتمد على زراعة المطاط إلى دولة اقتصادية مهمة. هذا التحليل يؤكده جون بيركنز في كتابه “الاغتيال الاقتصادي للأمم”، حين وصف الصندوق بأنه أداة للقرصنة الاقتصادية، وأن الدولة التي تسير في طريقه هي تسير نحو الهاوية، وهو في نظري توصيف صحيح، لأن غالبية الدول التي أخذت قروضاً لمعالجة أزماتها انتهى بها الأمر مفلسة وافتقر شعبها.

ولعل المثال الأشد إيلاماً في نظري هو الأرجنتين. لقد كانت من أغنى دول العالم، وشعبها يمتلك رفاهية تامة ودخلاً مرتفعاً، وكان نموها الاقتصادي بعد الحرب العالمية الثانية هو الأعلى في العالم. لكن رجال السياسة، للأسف، أفسدوا الاقتصاد عبر الانقلابات العسكرية والفساد، وكانت أمريكا ترغب في الاستفادة من موارد الأرجنتين. هنا تدخل الصندوق، وعرض خدماته بقروض كبيرة مقابل شروط قاسية جداً، وقدم وصفة اقتصادية زعم أنها ستعيد الاقتصاد كما كان. والنتيجة التي رصدتها بعد سنوات؟ انهيار اقتصادي شامل، أفلست الشركات والبنوك، ارتفعت البطالة إلى 30%، والفقر وصل إلى 35%، وانهار الدخل. أفلست الحكومة واضطرت لبيع غالبية مؤسسات الدولة لشركات أجنبية، وثمن هذه الشركات تم دفعه لصندوق النقد كجزء من القروض. وفي النهاية، أعلنت الأرجنتين إفلاسها. والمفارقة التي لا تغيب عن بالي، هي أن الصندوق نفسه اعترف عام 2004 بأن سياساته في الأرجنتين كانت خاطئة وأنه هو من أوصل البلاد للإفلاس، وقدم اعتذاراً. ولكني أتساءل: ما قيمة الاعتذار بعد تدمير اقتصاد دولة، وإفقار شعب، ونهب الموارد والثروات؟ هذا الاعتذار، في رأيي، هو كقبلة على جبين ميت.

هذا، في نظري، هو جوهر عمل الصندوق كذراع للرأسمالية الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة. ألاحظ أن الآلية تتبع نمطاً ثابتاً، بعد فشل الدول في سداد القروض، تبدأ مرحلة “قرصنة الموارد”. حيث يدعي الصندوق أن الدولة عاجزة عن استثمار مواردها بشكل صحيح، فيفرض شروطاً جديدة لا تنتهي إلا بدمار الاقتصاد، وتحويله إما إلى سوق للدول الغربية أو السماح للشركات عابرة القوميات بالاستحواذ على أسواقه وموارده. 

هذه السياسات هي التي أغرقت أفريقيا في الديون، وهو ما دفع المنظمات الإغاثية للقول إن كل طفل أفريقي يولد وفي عنقه دين لا يستطيع سداده طيلة حياته. لقد لخص رئيس أوغندا هذا الظلم بقوله إن على الغرب أن يدرك أنه لا يمكنه اعتبار أفريقيا “بقرة يحلبونها بوحشية” دون أن يتركوا لها الحد الأدنى من العلف الذي يبقيها على قيد الحياة. واليوم، أنظر بقلق شديد إلى مصر، وهي تسعى للحصول على القرض الرابع من الصندوق، والذي قد تبلغ قيمته 8 مليارات دولار. وكالعادة، الشروط موجودة، تحرير سعر صرف الجنيه، رفع الدعم عن المحروقات، وبيع بعض مؤسسات الدولة للقطاع الخاص. كل هذا يحدث في وقت يرتفع فيه الدين الخارجي لمصر بشكل حاد، حيث وصل حالياً إلى 164 مليار دولار، والأوضاع الاستراتيجية في المنطقة، من الحرب على غزة إلى الأزمة في مضيق عدن، تزيد الضغوط الاقتصادية وتؤثر سلباً على إيرادات قناة السويس، مع تضخم وصل إلى 35%. إنني أرى أن الوضع الاقتصادي في مصر لا يحتمل أي مخاطرات جديدة، والتعامل مع صندوق النقد، في قناعتي، أشبه باللعب بالنار. الصندوق يعطي بيد، ويأخذ بالأخرى أكثر مما أعطى. النماذج الدولية أمامي لا حصر لها، وأنا أؤمن بأن حل الأزمات الاقتصادية، مهما كانت حادة، لا يكون بالدخول إلى “وكر الأفعى”.

بالانتقال إلى حالة المغرب، نجد أن وضعه يختلف عن الأمثلة التي ناقشناها سابقاً، مثل الأرجنتين أو زامبيا. لأن العلاقة بين المغرب وصندوق النقد الدولي، التي بدأت رسمياً عام 1958، اتخذت في السنوات الأخيرة مساراً يُنظر إليه بشكل مختلف. فبدلاً من “وصفات التقشف” القاسية المفروضة على دول متعثرة، يُصنف المغرب من قبل الصندوق كدولة تمتلك “أساسيات اقتصادية قوية” وسياسات كلية متينة. هذا التصنيف سمح للمغرب بالوصول إلى آليات تمويل خاصة، أبرزها “خط الائتمان المرن” (FCL)، وهو يُمنح كشهادة ثقة تتيح التمويل دون شروط مسبقة مستمرة، بالإضافة إلى “تسهيل الصلابة والاستدامة” (RSF) الموجه لمواجهة التحديات المناخية. وكدليل على قوة هذه العلاقة، فقد إستضاف المغرب في مراكش الاجتماعات السنوية لصندوق النقد والبنك الدوليين لعام 2023، وهي المرة الأولى التي تُعقد فيها هذه الاجتماعات في أفريقيا منذ 50 عاماً.

فيما يتعلق بحجم الديون، من المهم التمييز بين الدين العام الإجمالي للمغرب وبين ديونه المحددة لصندوق النقد. فبينما بلغ الدين العام الإجمالي للمغرب (الداخلي والخارجي) حوالي 107.9 مليار دولار في أكتوبر 2024، وهو ما يمثل حوالي 68.7% من الناتج المحلي الإجمالي، فإن ديونه المستحقة لصندوق النقد الدولي تحديداً كانت تبلغ 1.34 مليار دولار في بيانات مارس 2024، مما يضعه في المرتبة 17 عالمياً بين مَديني الصندوق. وقد حصل المغرب مؤخراً على عدة دفعات، منها سحب 1.3 مليار دولار في مايو 2024، وموافقة على سحب 415 مليون دولار في نوفمبر 2024، وإتاحة 496 مليون دولار في مارس 2025، وغالبيتها مرتبط بـ “تسهيل الصلابة والاستدامة”. “الشروط” أو التوصيات المرتبطة بهذه القروض الأخيرة لا تركز على التقشف التقليدي، بل تنصب على مجالات مثل التحول المناخي، وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، ومعالجة أزمة ندرة المياه، وتعزيز الحوكمة، مع توصيات ضريبية محددة كزيادة ضريبة القيمة المضافة على الوقود الأحفوري. بهذا المعنى، يبدو المغرب في وضعية “الشريك” الذي يستخدم قروض الصندوق كأداة لتعزيز ثقة المستثمرين الدوليين وتمويل برامج التحول المناخي، وهو ما يمثل نموذج علاقة يختلف جذرياً عن “مصيدة الديون” التي عانت منها دول أخرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!