المغرب على أعتاب الغضبة الملكية فصمت الملك يُنذر بعاصفة تطهير الفساد

المصطفى الجوي

المصطفى الجوي – موطني نيوز

في مشاهد متكررة عبر ساحات ومدن المغرب، تتداخل الهتافات وتتعدد الشعارات، لكنها تلتقي عند مطلب واحد “الشعب يريد إسقاط الفساد”. هذه ليست مجرد هتافات عابرة، بل هي صرخة وجودية لشعب شعر بأن عقدًا اجتماعيًا قد انكسر، وأن قواعد اللعبة قد تشوهت بفعل استشراء ظاهرة الفساد التي تسللت إلى مفاصل الدولة والمجتمع. الاحتجاجات الشبابية التي أطلق عليها منظروها “جيل Z”، ورغم ما شابها من تجاوزات حاول عناصر مخربون استغلالها لتقويض سلميتها، إلا أنها كشفت عن تحول نوعي في الوعي المجتمعي. فلم تعد المطالبة محصورة في تحسين الخدمات في الصحة والتعليم، أو حتى الحق في العيش الكريم، بل تجاوزتها إلى المطالبة بمحاسبة رموز الفساد الذين أصبحوا، في نظر المحتجين، العقبة الحقيقية أمام تحقيق تلك المطالب.

واللافت في هذه الحركة الاحتجاجية، التي انطلقت من رحم المعاناة اليومية، هو تحول شعار “إسقاط الفساد” في العديد من المدن إلى هتاف أكثر دلالة “الشعب يريد تدخل الملك”. هنا تكمن المفارقة العميقة التي تستحق التأمل والتحليل. ففي نظام ملكي دستوري يقوم على البيعة، حيث يحتل العرش مكانة مركزية روحية وسياسية، يتحول المتظاهرون الغاضبون من واقعهم إلى الملك ليس كمصدر للمشكلة، بل كمخلص منها وكمصدر وحيد للحل. إنهم لا يهتفون ضد المؤسسة الملكية، بل يلجأون إليها طالبين حمايتها من “النخبة” المحيطة بها، والتي يُنظر إليها على أنها حاجز بين العرش والشعب. هذا التحول ليس اعتباطيًا، بل هو تعبير عن قراءة تاريخية للعلاقة بين القصر والشارع، حيث تترسخ في الذاكرة الجماعية صورة الملك كحَكَم أعلى ومصلح أخير عندما تستعصي الأزمات.

وهذا بالضبط ما يضعنا أمام سؤال محوري يتردد في الأوساط السياسية وفي المقاهي والشوارع على حد سواء، لماذا يطول انتظار هذا التدخل؟ أين هو ذلك التدخل الملكي المنتظر؟ أم أن صمت جلالة الملك محمد السادس – أيده الله – هو ذلك الهدوء الذي يسبق العاصفة؟ قراءة متأنية لمسار الأحداث وخطابات جلالته، خاصة في السنوات القليلة الماضية، تشير بقوة إلى أن هذا الصمت ليس غيابًا، بل هو ضرب من ضروب التكتيك السياسي الحكيم. فالملك، وبصفته قائدًا أعلى للدولة وضامنًا لاستقرارها، لا يتسرع في ردود أفعاله. إنه يراقب، يحلل، يجمع المعلومات، ويحدد بدقة متناهية نقاط الخلل والفساد. صمته ليس انفصالاً عن هموم الشعب، بل هو استعداد لضربة ستكون، بحسب كل المؤشرات، شاملة وعميقة ومختلفة.

إن فكرة “الغضبة الملكية” ليست مجرد استعارة بلاغية في الثقافة السياسية المغربية، بل هي مفهوم متجذر له سوابق تاريخية. إنها آلية إصلاح استثنائية من أعلى الهرم، تهدف إلى تصحيح المسار عندما تفشل الآليات العادية في الدولة. والشعب المغربي، بفطرته السياسية المرهفة، يدرك جيدًا أن الملك غاضب. هذا الغضب ليس موجهاً نحو المحتجين المطالبين بحقوقهم، بل هو موجّه نحو أولئك الذين تسببوا في خيبة أمل الشعب وأخرجوهم إلى الشوارع وهم كذلك من دفع المخربين إلى إخراج الأمور عن السيطرة لتتحول شوارع المملكة إلى ساحة مفتوحة للحرب، والذين قصّروا في واجباتهم، والذين استغلوا مناصبهم للاستئثار بالثروة والسلطة على حساب المصلحة العامة. إن الاعتقالات والإجراءات الأمنية التي طالت بعض المتظاهرين، والتي يندد بها المحتجون، تُقرأ في هذا السياق على أنها رد فعل مؤسساتي قاصر، بينما الحل الجذري لا يكمن في قمع المطالبين، بل في استئصال سبب هذه المطالب، وهو الفساد نفسه.

وهنا يبرز السؤال الأكثر إلحاحًا، إذا كانت العاصفة آتية، فمن سيكون في مسارها؟ من هم الأشخاص والجهات التي ستكون هدفًا للغضبة الملكية العاصفة؟ إن الإجابة على هذا السؤال تتطلب تشخيصًا دقيقًا لطبيعة النظام السياسي المغربي وأمراضه. فالفساد في المغرب ليس ظاهرة عشوائية، بل هو بنية معقدة تتشابك فيها المصالح وتتقاطع فيها شبكات نفوذ متجذرة. لذلك، من المتوقع أن تستهدف أي عملية تطهير حقيقية عدة دوائر مترابطة.

الدائرة الأولى هي دوائر “الريع والاحتكار”. وهي تشمل شخصيات في عالم الأعمال ارتبطت ثرواتهم المفاجئة بعلاقاتهم العضوية مع الإدارة وباستغلال النفوذ. هؤلاء هم “أقطاب الفساد” الذين حولوا الاقتصاد الوطني إلى ساحة للنهب المنظم، مستفيدين من صفقات عمومية مشبوهة، واحتكارات غير مشروعة، وإعفاءات جمركية وضريبية استثنائية على حساب المال العام وقانون المنافسة.

الدائرة الثانية، وهي الأخطر، هي دوائر “الإدارة العميقة”. ويقصد بها كبار المسؤولين في الإدارات العمومية والوزارات والمؤسسات العمومية الذين حولوا مناصبهم إلى إقطاعات شخصية. هؤلاء هم “أمراء الورق” الذين يتحكمون في مصالح المواطنين ومقدرات البلاد، ويبتكرون التعقيدات الإدارية ليسهلوا عملية الابتزاز والرشوة. إنهم يتوارثون المناصب ويقيمون تحالفات مع دوائر المال، مما يجعلهم حجر عثرة أمام أي إصلاح حقيقي.

الدائرة الثالثة هي “الوجوه السياسية الفاسدة”. وهي تشمل شخصيات سياسية، بعضها يحمل أو حمل مسؤوليات وزارية أو برلمانية رفيعة، استخدمت الغطاء السياسي للانغماس في معاملات مالية وعقارية مشبوهة. هؤلاء هم من حولوا السياسة من خدمة عامة إلى وسيلة للثراء غير المشروع الذي سبق وسحبوا قانونه من البرلمان لحماية أنفسهم، مما أساء إلى العمل السياسي برمته وساهم في فقدان الثقة بين الشعب وممثليه.

أما الدائرة الرابعة، فهي دوائر “الولاة والعمال وكبار رجال الأمن” الذين قصرّوا في أداء واجباتهم، إما بتغطيتهم على الفساد المحلي مقابل امتيازات، أو بتقديمهم تقارير غير دقيقة عن واقع الحال في مناطق نفوذهم، مما حال دون وصول الصورة الحقيقية لصانع القرار. بعض هؤلاء قد يكونون مسؤولين مباشرين عن التصعيد الأمني غير المبرر في بعض الأحيان، والذي أدى إلى تأجيج الاحتقان بدلاً من تهدئته.

إن الثقة التي يعبر عنها المواطن المغربي البسيط في عاهل البلاد، جلالة الملك محمد السادس، ليست مجرد تعبير عن الولاء التقليدي، بل هي رهان سياسي واعي. إنها ثقة نابعة من إيمان راسخ بأن الملك، وبموقعه الدستوري والديني الفريد، هو القوة الوحيدة القادرة على كسر هذه التحالفات المرضية وتفكيك شبكات المصالح. الشعب لا يستبئ الأحداث، ولكنه ينتظر. ينتظر لحظة الحسم التي ستثبت أن دماء أبنائه وكرامتهم ليست أرخص من مناصب ومصالح فئة فاسدة.

المغرب اليوم على مفترق الطرق. فإما أن تتحول هذه الغضبة الملكية المنتظرة إلى واقع ملموس، تشهد فيها البلاد محاكمات عادلة وشاملة للفاسدين، بغض النظر عن مناصبهم أو نفوذهم، وإعادة بناء ثقة الشعب في مؤسساته. أو أن يستمر الصمت، وهو احتمال مستبعد، مما قد يفتح الباب أمام مزيد من الاحتقان قد يصعب احتواؤه لاحقًا. الخيار بين العاصفة التطهيرية التي تنقذ ما يمكن إنقاذه، أو السكون الذي يخفي تحت سطحه بركانًا من الغضب الآخذ في الغليان. والشارع المغربي، بكل فئاته، وخاصة شبابه الطامح إلى غد أفضل، يترقب بقلق وأمل تلك اللحظة الفاصلة التي سيعلن فيها القصر أن وقت المحاسبة قد حان، وأن “الغضبة الملكية” ستجتاح أوكار الفساد لتُعيد للمغرب أمانته وللشعب كرامته. لأن ثقتنا قوية في عاهل البلاد لانه ملكنا المفدى ونحن شعبه العزيز.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!