
المصطفى الجوي – موطني نيوز
يُعد خطاب العرش الذي يلقيه صاحب الجلالة الملك محمد السادس بمناسبة الذكرى السادسة والعشرين لتربعه على عرش أسلافه المنعمين، وثيقة سياسية بالغة الأهمية، ترسم ملامح التوجهات الاستراتيجية للمملكة، وتحدد أولوياتها على الصعيدين الداخلي والخارجي. يأتي هذا الخطاب في سياق إقليمي ودولي متغير، مما يضفي عليه أبعادًا إضافية من الأهمية والتحليل. يهدف هذا المقال إلى تقديم قراءة تحليلية معمقة لأبرز المحاور التي تناولها الخطاب الملكي، مع ربطها بالسياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الراهنة في المغرب.
تضمن الخطاب الملكي مجموعة من الرسائل والمحاور الأساسية التي تعكس رؤية جلالة الملك لمستقبل المغرب، وتطلعاته نحو تحقيق التنمية الشاملة والمستدامة. يمكن تلخيص أبرز هذه المحاور فيما يلي:
أكد الخطاب على الإنجازات الاقتصادية التي حققها المغرب، مشيرًا إلى أن هذه الإنجازات لم تكن وليدة الصدفة، بل هي نتاج رؤية بعيدة المدى واختيارات تنموية صائبة، بالإضافة إلى الأمن والاستقرار السياسي والمؤسسي الذي تتمتع به المملكة. لفت جلالة الملك إلى الحفاظ على نسبة نمو اقتصادي هامة ومنتظمة رغم توالي سنوات الجفاف وتفاقم الأزمات الدولية. كما أبرز النهضة الصناعية غير المسبوقة، وارتفاع الصادرات الصناعية بأكثر من الضعف منذ عام 2014، خاصة في قطاعات السيارات والطيران والطاقات المتجددة والصناعات الغذائية والسياحة، التي أصبحت رافعة أساسية للاقتصاد الوطني الصاعد.
شدد الخطاب على أن التنمية الاقتصادية والبنيات التحتية لن تكون مرضية ما لم تساهم بشكل ملموس في تحسين ظروف عيش المواطنين. وفي هذا الصدد، أولى جلالة الملك أهمية خاصة للنهوض بالتنمية البشرية، وتعميم الحماية الاجتماعية، وتقديم الدعم المباشر للأسر المستحقة. وأشار إلى نتائج الإحصاء العام للسكان 2024، التي أظهرت تراجعًا كبيرًا في مستوى الفقر متعدد الأبعاد على الصعيد الوطني، وتجاوز المغرب عتبة مؤشر التنمية البشرية ليصنف ضمن الدول ذات “التنمية البشرية العالية”.
أكد الخطاب على ضرورة إحداث نقلة حقيقية في التأهيل الشامل للمجالات الترابية وتدارك الفوارق الاجتماعية والمجالية. ودعا إلى الانتقال من المقاربات التقليدية للتنمية الاجتماعية إلى مقاربة للتنمية المجالية المندمجة، بهدف أن تشمل ثمار التقدم والتنمية جميع المواطنين في كل المناطق والجهات دون تمييز أو إقصاء. ووجه الحكومة لاعتماد جيل جديد من برامج التنمية الترابية يرتكز على تثمين الخصوصيات المحلية، وتكريس الجهوية المتقدمة، ومبدأ التكامل والتضامن بين المجالات الترابية. وتتضمن هذه البرامج دعم التشغيل، وتقوية الخدمات الاجتماعية الأساسية (التربية والتعليم، الرعاية الصحية)، واعتماد تدبير استباقي ومستدام للموارد المائية، وإطلاق مشاريع التأهيل الترابي المندمج.
تطرق الخطاب إلى قرب موعد الانتخابات التشريعية المقبلة، داعيًا جميع الفاعلين السياسيين إلى استحضار المصلحة العليا للوطن والمواطنين، والتحلي بروح المسؤولية، والعمل الجماعي من أجل إنجاح هذا الاستحقاق الهام.
يأتي خطاب العرش في ظل ديناميكية داخلية وخارجية معقدة، تتطلب قراءة متأنية للمشهد العام في المغرب:
يشهد الاقتصاد المغربي نموًا متسارعًا، حيث توقعت الحكومة المغربية تسارع معدل النمو الاقتصادي ليصل إلى 4.5% خلال عام 2025، مدفوعًا بدينامية الأنشطة غير الفلاحية. كما سجل الاقتصاد الوطني نموًا بنسبة 4.8% في الربع الأول من عام 2025. وتتوقع الموازنة العامة لعام 2025 نموًا بنسبة 4.6% مع تضخم بنحو 2%. هذه الأرقام تعكس مرونة الاقتصاد المغربي وقدرته على التكيف مع التحديات، بما في ذلك توالي سنوات الجفاف وتداعيات الأزمات الدولية، كما أشار الخطاب الملكي. ويبرز المغرب كأرض للاستثمار وشريكًا موثوقًا، حيث يرتبط اقتصاده بثلاثة مليارات مستهلك عبر العالم بفضل اتفاقيات التبادل الحر.
يشهد المشهد السياسي المغربي حركية ملحوظة، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية. هناك تجاذبات سياسية مبكرة وأدوار منتظرة للأحزاب، مع ظهور مصطلح “حكومة المونديال” المرتبط بالانتخابات المغربية في 2026. الحكومة الحالية بقيادة أخنوش تواجه تحديات سياسية ملحوظة، خاصة بعد تراجعات في ولايتها الأولى. يؤكد الخطاب الملكي على أهمية استحضار المصلحة العليا للوطن والتحلي بروح المسؤولية من قبل الفاعلين السياسيين، وهو ما يعكس الحاجة إلى تعزيز التعاون والتوافق في المرحلة المقبلة.
على الرغم من التقدم المحرز في التنمية البشرية وتراجع الفقر متعدد الأبعاد، لا تزال هناك تحديات اجتماعية تواجه المغرب، خاصة في المناطق القروية التي تعاني من نقص في البنيات التحتية والمرافق الأساسية. من أبرز التحديات الاجتماعية التي واجهت المغاربة في عام 2024 واستمرت في 2025 ارتفاع البطالة والتضخم وغلاء الأسعار وتداعيات الجفاف. كما أن إصلاح التعليم وتعميم الحماية الاجتماعية يمثلان أولوية وطنية للحكومة في عام 2025. يؤكد الخطاب الملكي على ضرورة معالجة هذه الفوارق وتحقيق العدالة المجالية، وهو ما يتطلب مقاربة مندمجة للتنمية الترابية.
يُقدم خطاب العرش الملكي بمناسبة الذكرى 26 لتولي جلالة الملك محمد السادس العرش، خارطة طريق واضحة لمستقبل المغرب، ترتكز على تعزيز المكتسبات الاقتصادية والاجتماعية، ومعالجة التحديات القائمة، وتحقيق تنمية شاملة ومستدامة. يبرز الخطاب التزام جلالة الملك بتحسين ظروف عيش المواطنين، وتحقيق العدالة المجالية، وتوحيد الجهود الوطنية لمواجهة التحديات المستقبلية. إن الرسائل الملكية تدعو إلى التفاؤل والعمل الجاد، مع التأكيد على أهمية الاستقرار السياسي والمؤسسي كركيزة أساسية لتحقيق التقدم المنشود.