بين مرسوم ملكي وواقع شعبي

المصطفى الجوي

المصطفى الجوي – موطني نيوز 

لقد كان قرار صاحب الجلالة الملك محمد السادس، نصره الله وأيده، بإلغاء شعيرة عيد الأضحى لهذا العام، قرارًا حكيمًا ونبيلًا، نابعًا من حرص جلالته على مصلحة الوطن والمواطنين. ففي ظل الظروف الاقتصادية الراهنة، وارتفاع أسعار الأضاحي بشكل غير مسبوق، جاء هذا القرار ليحمي قطيع الأغنام من الاستنزاف، ويرأف بذوي الدخل المحدود الذين باتوا يرزحون تحت وطأة الغلاء الفاحش. لقد كان الهدف واضحًا وجليًا: التخفيف عن كاهل الأسر المغربية، وضمان استقرار السوق، والحفاظ على الثروة الحيوانية التي تُعد ركيزة أساسية في اقتصادنا الوطني.

ولكن، ويا للأسف، يبدو أننا صببنا الماء في الرمل. فمن كان يُفترض أن يكونوا المستفيدين الأوائل من هذا القرار الملكي السامي، ومن راعى الملك أحوالهم وظروفهم، كانوا هم السباقين إلى إحياء هذه الشعيرة تحت مسميات شتى وحيل لا تخطر على بال الشيطان. فما أن صدر القرار حتى بدأت تظهر في الأفق ممارسات غريبة، وتحايلات مكشوفة، وكأن البعض قد وجد في هذا المرسوم الملكي فرصة للالتفاف على التعليمات السامية، وإشباع رغباتهم الشخصية، دون أدنى اعتبار للمصلحة العامة، أو للظروف التي دعت إلى اتخاذ هذا القرار الحكيم. لقد تحولت العقيقة والأعراس والمناسبات الاجتماعية الأخرى إلى ستار لإقامة شعيرة العيد، وكأننا أمام مسرحية هزلية أبطالها هم من يدعون الفقر والمسكنة، بينما هم في الحقيقة يعيشون في بحبوحة من العيش، ولكنهم اعتادوا البكاء والنواح في كل مناسبة، والشكوى من الغلاء والضيق، حتى باتت هذه الشكوى جزءًا لا يتجزأ من هويتهم.

لقد تجولت في الأسواق ومحلات الجزارة، وما رأيته بعيني أكد لي بما لا يدع مجالًا للشك أن الشعب المغربي، وخاصة تلك الفئة التي تدعي الفقر وتشتكي من غلاء الأسعار ودائمة الإحتجاج والتدمر، هي في الحقيقة فئة ميسورة الحال، ولكنها اعتادت البكاء والنواح في كل مناسبة. إنهم يتقنون فن التباكي، ويجيدون دور الضحية، بينما جيوبهم عامرة، وموائدهم لا تخلو من أطايب الطعام. لقد رأيتهم يتهافتون على شراء اللحوم بأسعار خيالية، ويتفاخرون بذبح الأضاحي، وكأنهم يتحدون القرار الملكي، ويستهزئون بالظروف الاقتصادية التي يعيشها غالبية الشعب. إنهم يبرهنون على أنهم ليسوا فقراء، بل هم فئة اعتادت على الاستهلاك المفرط، وعلى التبذير، وعلى عدم الاكتراث بالتعليمات والتوجيهات التي تصب في مصلحتهم أولًا وأخيرًا.

والدليل الأكبر على ذلك هو أن هذه الفئة هي من كسرت التعليمات الملكية السامية بخصوص عيد الأضحى. لقد وصل الأمر إلى درجة أننا أصبحنا نجدها في مواقع التواصل الاجتماعي تدافع عن الجزار، وتبرر ارتفاع أسعار اللحوم، بل وتساهم في هذا الارتفاع بشكل مباشر أو غير مباشر. فبعد أن تراجعت أسعار اللحوم والأغنام بفضل القرار الملكي، عادت هذه الفئة لتساهم في رفعها من جديد، وكأنها لا تتعلم من أخطائها، ولا تدرك عواقب أفعالها. إنهم يظنون أنهم أذكى من الجميع، وأنهم يستطيعون التحايل على القوانين والتعليمات، ولكنهم في الحقيقة يضرون بأنفسهم وبالمجتمع ككل. فمن يدري، ربما يكون القادم أسوأ مع هذه الفئة التي لا تبالي إلا بمصالحها الشخصية، ولا تفكر إلا في إشباع رغباتها الأنانية.

لقد جعلت هذه الفئة الحكومة المغربية تتأكد بما لا يدع مجالًا للشك أنهم بخير وعلى خير، وأنهم ليسوا فئة فقيرة، بل فئة جاهلة وضعت رأسها عن طيب خاطرها أمام المقصلة. فبينما يسعى الملك جاهدا لتوفير سبل العيش الكريم لجميع المواطنين، ويتخذ قرارات جريئة وصعبة في سبيل ذلك، يأتي البعض ليضرب بكل هذه الجهود عرض الحائط، ويساهم في تفاقم الأزمات بدلًا من المساهمة في حلها. إنهم يظنون أنهم يحققون انتصارًا شخصيًا، ولكنهم في الحقيقة يضرون بالمصلحة العامة، ويساهمون في خلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار في السوق. إنهم يثبتون أنهم لا يستحقون الرأفة التي أظهرها الملك تجاههم، وأنهم لا يقدرون حجم التضحيات التي تُبذل من أجلهم.

فماذا بعد عيد الأضحى؟ وكيف سيكون هذا الصيف؟ إنها أسئلة تفرض نفسها بقوة، وتثير الكثير من القلق والتساؤلات. فإذا كانت هذه هي ردة فعل البعض على قرار ملكي حكيم يهدف إلى التخفيف عنهم، فماذا نتوقع منهم في المستقبل؟ هل سيستمرون في التباكي والشكوى، بينما هم في الحقيقة يعيشون في رغد من العيش؟ هل سيستمرون في التحايل على القوانين والتعليمات، ويساهمون في تفاقم الأزمات؟ إننا نخشى أن يكون هذا الصيف أكثر صعوبة، وأن ترتفع الأسعار بشكل أكبر، وأن تزداد المعاناة، بسبب جشع وطمع فئة لا تبالي إلا بمصالحها الشخصية. “اللهم لا تحاسبنا بما فعل السفهاء منا يا رب العالمين”. إننا نرفع أكف الضراعة إلى الله، أن يحفظ هذا الوطن، وأن يهدي أبناءه إلى سواء السبيل، وأن يلهمهم الرشد والصواب، وأن يبعد عنهم كل مكروه وسوء الذي يسقطون فيه.

إن ما حدث يكشف عن تناقض صارخ في سلوكيات بعض أفراد المجتمع. فبينما يشتكون ليل نهار من غلاء المعيشة وصعوبة الظروف الاقتصادية، تجدهم أول من يتجاهل القرارات التي تصب في مصلحتهم، وأول من يساهم في تفاقم المشكلات التي يدعون أنهم يعانون منها. هذا السلوك لا يعكس فقط عدم وعي أو جهل، بل يعكس أيضًا نوعًا من الأنانية المفرطة وعدم المسؤولية تجاه المجتمع ككل. فالمصلحة العامة تتطلب تكاتف الجميع، والالتزام بالتعليمات التي تهدف إلى تحقيق الاستقرار والرخاء للجميع، وليس فقط لفئة دون أخرى. إن هذا التهافت على إحياء شعيرة العيد بشتى الطرق، حتى بعد صدور قرار الإلغاء، يرسل رسالة خاطئة للحكومة وللمجتمع الدولي بأن الوضع الاقتصادي في المغرب ليس بالسوء الذي يتم تصويره، وأن الشعب المغربي قادر على تحمل المزيد من الأعباء، وهذا ما قد يؤدي إلى قرارات مستقبلية لا تكون في صالح الفئات الأكثر احتياجًا.

لقد كان الهدف من قرار إلغاء شعيرة العيد هو حماية الفئات الهشة، وتخفيف الضغط على السوق، وضمان استقرار الأسعار. ولكن ما حدث هو العكس تمامًا. فبسبب هذا السلوك غير المسؤول، ارتفعت أسعار اللحوم بشكل جنوني، وأصبح الحصول على الأضحية حلمًا بعيد المنال بالنسبة للكثيرين. هذا الارتفاع في الأسعار لم يقتصر على اللحوم فقط، بل امتد ليشمل سلعًا أخرى، مما أثر سلبًا على القدرة الشرائية للمواطنين، وزاد من معاناتهم. إن هذه الفئة التي تدعي الفقر وتشتكي من الغلاء، هي نفسها التي تساهم في خلق هذا الغلاء، وهي نفسها التي تدفع ثمن أفعالها في النهاية. إنها حلقة مفرغة من الشكوى والتباكي، تليها أفعال تزيد من حدة المشكلة، ثم شكوى جديدة من تفاقم المشكلة. هذا السلوك لا يمكن أن يستمر، ويجب أن يكون هناك وقفة جادة مع الذات، ومراجعة شاملة للسلوكيات، من أجل مصلحة الوطن والمواطنين.

إننا نأمل أن يكون هذا الدرس قاسيًا بما يكفي ليدرك الجميع أن المصلحة العامة فوق كل اعتبار، وأن القرارات الملكية السامية تصدر دائمًا وأبدًا من منطلق الحرص على مصلحة الوطن والمواطنين. يجب أن نتعلم من أخطائنا، وأن نكون أكثر وعيًا بمسؤولياتنا تجاه مجتمعنا. فالمغرب يستحق منا جميعًا أن نعمل بجد وإخلاص، وأن نضع مصلحته فوق مصالحنا الشخصية الضيقة. اللهم إنا نسألك أن تهدينا سواء السبيل، وأن توفقنا لما فيه خير البلاد والعباد، وأن تحفظ ملكنا ووطننا من كل سوء ومكروه. آمين يا رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!