المجتمعات الفاشلة أو حين تعلو التفاهة وتُدفن الحكمة

المصطفى الجوي

المصطفى الجوي – موطني نيوز 

عندما طرح الكاتب الروسي أنطون تشيخوف رؤيته القاسية عن المجتمعات الفاشلة، لم يكن يرمي إلى مجرد وصف لحظة عابرة، بل كان يشير إلى ظاهرة عميقة تُختزل فيها مآسٍ إنسانية كبرى. فالمجتمع الفاشل، في عينيه، ليس ذلك الذي يفتقر إلى الموارد أو ينهكه الفقر، بل هو المجتمع الذي يُسخِّر طاقاته لخدمة التافه، ويُخفي العقلَ تحت ركام الجهل، ويجعل من الضحك على الذات فلسفةً وجودية. إنه المجتمع الذي يُقدِّم الأغبياء على الحكماء، والخرقاء على الواعين، حتى يصير السقوط حتميةً لا مفر منها. فكيف نتعرف على هذه المجتمعات؟ وما العلامات التي تُنبئ بفشلها؟

أولى سمات المجتمع الفاشل، وفقًا لتشيخوف، هي هيمنة التفاهة على الخطاب العام. فبدلًا من أن تحتل القضايا الجوهرية صدارة النقاشات كالعدالة، والتعليم، والتنمية تتصدر المواضيع السطحية المشهد، كالثرثرة عن حياة المشاهير كخروج دنيا بطمة من السجن وانتظارها لساعات امام السجن، أو الجدل حول أزياء فنان، أو تضخيم حدث ترفيهي عابر ليصير قضيةً وطنية ورأي عام، والأمثلة كثيرة في المغرب. هنا، لا يعود الاهتمام بالجوهري خيارًا فرديًا، بل يصير انعكاسًا لثقافة مجتمعية ترفض التعمق خوفًا من مواجهة الذات.

ولا تقتصر التفاهة على النقاشات فحسب، بل تمتد لتشكل ذائقة المجتمع. فالأغاني التي تفتقر إلى معنى، والتي تُكرر كلماتٍ ركيكةً بإيقاع مغرٍ، تتحول إلى أناشيدَ جماهيرية تُرددها الألسن بلا وعي. والمؤلفون الذين ينتجون أعمالًا ترفيهيةً خالية من العمق يُحتفى بهم كـ”عباقرة”، بينما يُهمش المفكرون والفلاسفة لأنهم ببساطة لا يقدمون “تسلية”. في هذا السياق، يصير الفنان التافه نجمًا لأن الجماهير تبحث عمن يُخدرها، لا عمن يوقظها.

والسمة الثانية للمجتمع الفاشل هي تحويل العقل إلى عدو. ففي المجتمعات التي تُقدس الجهل، يصير المفكر مُنغمسًا في “برج عاجي” لا يُسمع صوته إلا في دوائر ضيقة، بينما يتحول الجاهل إلى مُعلِّقٍ عام على كل شيء. يصف تشيخوف هذه المفارقة بقوله: «تظل الغالبية بلهاء دائمًا، وتغلب العاقل باستمرار». فالأغلبية هنا لا تُقصي العقلَ لأنها لا تفهمه، بل لأنها ترفض أن تُحاكم إليه. فالعقل يطرح أسئلةً مزعجة، ويكشف الأوهام، ويدعو إلى المساءلة وهي كلها أمورٌ تهدد راحةَ من اعتادوا العيش في قوقعة السطحية.

كما لا يقتصر إقصاء العقل على النخب الثقافية، بل يتسرب إلى مؤسسات الدولة. ففي التعليم، تُهمَّش المواد النقدية لصالح التلقين، وفي الإعلام، تُستبدل البرامج التحليلية بمسابقات الغناء، وفي السياسة، يتحول الخطاب العقلاني إلى مجرد “رفاهية” لا مكان لها في معارك الهتافات الشعبوية. وهكذا، يصير العاقل غريبًا في وطنه، بينما يُمنح الجاهل منصةً ليتحدث باسم “صوت الشعب”.

ويُثير تشيخوف نقطةً جوهرية في ربطه بين فشل المجتمعات وطبيعة الديمقراطية فيها، قائلًا: «الديمقراطية لا تصلح للمجتمعات الجاهلة، لأن الأغلبية الجاهلة هي التي ستقرر مصيرك». ففي المجتمعات التي تفتقر إلى الوعي، تتحول الديمقراطية من أداةٍ لتمثيل الإرادة الشعبية إلى آلية لتعزيز التخلف. فالأغلبية التي تختار قياداتها بناءً على الشعبوية أو الانتماءات الحزبي لا الكفاءة تُديم دورة الفشل، ولكم في البرلمان المغربي نموذجا نوابا لا يستطيعون كتابة أسمائهم من جهلهم وأميتهم وآخرون ينهبون الاخضر واليابس ومتابعون قضائيا في تهم فياد ومع ذلك هم من يشرعون لك قوانين حياتك. تماما كالعاهرة التي تحاضر في الشرف.

أقول، ليست المشكلة في مبدأ الديمقراطية نفسه، بل في توظيفه داخل بيئةٍ غير مؤهلة. فحين تُمنح السلطة للجماهير التي تربت على ثقافة التسطيح، يصير من السهل توجيهها عبر عواطفها بدلًا من عقولها. وهذا ما يفسر صعود شخصيات تافهة إلى مراكز القيادة وهذا ما نراه في مشهدنا السياسي في المغرب. لأنها تتحدث بلغة الجماهير، لا بلغة الحقيقة. فالشعبوية، في جوهرها، ليست إلا انعكاسًا لرغبة الجمهور في سماع ما يُرضي غروره، لا ما يُصحح مساره.

فإذا كانت التفاهة سمةً، والجهل أداةً، فإن التخدير هو الهدف. فالمجتمعات الفاشلة لا ترفض الحكمة لأنها جاهلة فحسب، بل لأنها تدرك ولو بلا وعي أن الصحوة مؤلمة. فالنقد الذاتي يتطلب اعترافًا بالأخطاء، والتفكير الناضح يتطلب جهدًا عقليًا، والوعي يستلزم تحمل المسؤولية. في المقابل، يقدم التخدير مخرجًا سهلاً “اغرق في الترفيه”، “انشغل بالثرثرة”، عبِّر عن رأيك في كل شيء دون أن تفهم شيئًا.

وهنا تكمن المفارقة، فالمجتمعات التي ترفض الصحوة تختار الفشل عن قصد. لإنها تفضل أن تكون “سعيدة” بالجهل على أن تكون “مُتعبةً” بالوعي. لكن هذه السعادة وهمية، كالمخدر الذي يخفف الألم مؤقتًا بينما ينهش المرض الجسد. فالفشل ليس حدثًا مفاجئًا، بل تراكمًا لخياراتٍ يومية تُقدَّم فيها التفاهة على الجوهر، والخرقاء على الحكماء.

ربما يبدو التشخيص قاسيًا، لكن الاعتراف بالمرض هو أول خطوات العلاج. فالمجتمعات التي تريد النهوض عليها أن تبدأ بإعادة تعريف أولوياتها، أن تجعل من العقل قيمةً عليا، لا عدوًا يُحارب. وهذا يتطلب ثورةً ثقافية تعيد للفكر هيبته، وللعلم مكانته، وللعمق اعتباره.

لكن هذه الثورة لن تنجح دون إصلاح المؤسسات مما ينعكس على الأشخاص أو بحسب تعريفهم للواقع بعبارة “التنمية البشرية”. فالتعليم يجب أن يتحول من تلقين المعلومات إلى بناء العقول الناقدة، والإعلام يجب أن ينتقل من نشر التخدير إلى صناعة الوعي، والسياسة يجب أن تتوقف عن استغلال غرائز الجماهير لتبني سياساتٍ عقلانية. أما الديمقراطية، فلا يمكن أن تنجح إلا بشرط واحد، وهو أن تسبقها تربيةٌ جماهيرية على قيم المساءلة والفكر النقدي.

وبالتالي، فإن مجتمعاتنا ليست محكومةً بالفشل أبديًا. فالتاريخ يشهد أن الأمم تنهض عندما تُقرر أن تنتصر للحكمة على التفاهة، وللوعي على التخدير. والسؤال الذي يبقى: هل نختار أن نكون جزءًا من هذا النهوض، أم نستمر في الرقص على إيقاع الفشل؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!