![](https://mawtininews.com/wp-content/uploads/2024/03/IMG_20240310_122001_900_x_600_pixel-e1711046713939-300x187.png)
المصطفى الجوي – موطني نيوز
“قال ليه باك طاح..جوبو راه من الخيمة خرج مايل”… مثل مغربي شعبي يختزل في دلالته سخرية لاذعة من تناقض الإنسان الذي ينسى أصله بمجرد خروجه من خيمته، فيُلام على ميله عن الجادة رغم أن الخيمة هي مأواه الذي يحميه. لكن هذا المثل، الذي قد يبدو للوهلة الأولى تعبيرًا عن مفارقة فردية، تحول في حالة جماعة سيدي بطاش وغيرها من الحماعات بإقليم بنسليمان إلى استعارة سياسية مُرّة، تكشف الانزياح الخطير للعمل السياسي عن مقاصد التمثيل الديمقراطي، لصالح منطق هرمي يفرغ المؤسسات من مضامينها. فما جرى منذ 2022 – مع عزل ربع أعضاء المجلس الجماعي في سيدي بطاش مثلا (4 من أصل 16) بدعوى تنازع المصالح – ليس مجرد إجراء تقني، بل هو اختراقٌ للنسيج الهش للديمقراطية المحلية، حيث تُختَطَف إرادة الناخبين وتُستبدل بقرارات فوقية تكرس هيمنة “المكتب المسير” على حساب التعددية، وتُحوِّل المجالس إلى مجرد طقوس شكلية تُدار “بأريحية” تامة، لكنها أريحيةٌ مريبة، تذكرنا بذلك الخروج المائل من الخيمة الذي يحذّر منه المثل.
تبدأ الحكاية مع قرار عزل أربعة مستشارين جماعيين عام 2022، بحجة أنهم أو أقاربهم طرف في عقود كراء لمحلات سكنية تابعة لأملاك الدولة (وليس للجماعة). الفكرة القانونية هنا قد تبدو مُبرَّرة في ظاهرها: حماية المال العام من تنازع المصالح. لكن الواقع يفضح انتقائيةً مفرطة في تطبيق هذه الحجة. فإذا كان تنازع المصالح جريمة تستوجب العزل، فلماذا اقتصرت الإجراءات على هؤلاء الأربعة دون غيرهم ممن تربطهم – أو تربط أقاربهم – مصالح مشابهة بأملاك الدولة بالبلاد بصفة عامة وإقليم بصفة خاصة، وهو أمرٌ شائع في الواقع المغربي؟ الأكثر إثارةً للتساؤل هو السرعة القياسية التي تحركت بها سلطة العزل لتفريغ المقاعد، بينما تتلكأ في تعويضها عبر انتخابات جزئية، وكأن الفراغ التمثيلي مطلوبٌ لذاته. بل إن بعض ملفات المعزولين ما زالت عالقة في أروقة الغرفة الإدارية لمحكمة أعلى درجة، ما يطرح شكوكًا حول مدى شرعية الإجراءات من أساسها. هنا لا يعود السؤال عن “شرعية العزل” مجرد تفصيل إداري، بل يصبح استفهامًا عن جدوى الانتخابات ذاتها، إذا كان من الممكن إلغاء صوت الناخبين بقرار إداري عاجل، بينما تُؤجَّل إجراءات تصحيح الأخطاء – إن وُجدت – إلى ما لا نهاية.
النتيجة الطبيعية لهذا الفراغ كانت تحويل المجلس الجماعي إلى هيئة مُوحَّدة الرأي، تُدار جلساته – بحسب وصف الناشطين المحليين – “بأريحية” تخلو من النقاش الجاد أو الجدال، حيث انكسر جناح المعارضة، وغابت الآليات الدستورية لضمان الرقابة المتبادلة. هذه “الأريحية” ليست دليلًا على الانسجام، بل هي علامة على اختزال الديمقراطية المحلية في طقوسٍ شكلية، تُدار فيها القرارات بعيدًا عن عين المجتمع المدني والناخبين. فغياب النقاش يعني غياب الرقابة على قرارات “المكتب المسير”، وهو ما يتناقض مع روح القانون التنظيمي للجماعات الذي يؤكد على فصل السلط وضرورة الشفافية. وهنا تتحول الديمقراطية من أداة لتمثيل الإرادة الشعبية إلى آلية لشرعنة هيمنة النخبة المحلية، التي تتحرك في فراغٍ تمثيلي صنعته بنفسها.
المفارقة الأقسى في هذه الحالة تكمن في أن “المجلس المريح” – الذي يُفترض أن يعمل براحةٍ نتيجة غياب المعوقات – لم يُترجم هذه الراحة إلى إنجازات ملموسة للمواطنين. فوعوده الانتخابية، التي رفعها منذ 2021، ما زالت حبيسة الأدراج، وكأن الصمت السياسي الذي فرضه على نفسه بات ثمنًا يدفعه المواطنون مقابل استقرار وهمي. وهذا يدفع إلى تساؤل جوهري: ما الجدوى من انتخاب مستشارين جماعيين إذا كان بالإمكان الاستغناء عن ربعهم، والاكتفاء بـ”ثلة المكتب المسير” التي تُدار خارج أي محاسبة؟ بل ما الجدوى من الانتخابات نفسها إذا كانت إرادة الناخبين قابلة للإلغاء بقرار إداري، بينما تتحول الدوائر الشاغرة إلى مقاعد مُعلَّقة بلا تمثيل؟
لا يمكن فصل ما جرى في سيدي بطاش عن السياق الأوسع للديمقراطية المحلية في المغرب، التي غالبًا ما تُختزل في صراعات النفوذ بين الأسر السياسية، بدلًا من أن تكون فضاءً للتشاركية وبناء السياسات. فالعزل الانتقائي – دون ضمانات قضائية فاعلة – يعكس ثقافة الازدواجية في تطبيق القانون: يُستخدم القانون كعصا للضرب عندما يتعلق الأمر بمن هم خارج دائرة النفوذ، بينما يُتغاضى عنه إذا تعلق الأمر بمن يحميهم ظل السلطة. لكن اللافت في حالة سيدي بطاش هو أنها تتجاوز حتى هذا الإطار، لتصبح نموذجًا لـ”الديمقراطية الانتقائية”، حيث تُفرغ المؤسسات من مضمونها التمثيلي، وتُختزل في إدارة المصالح الضيقة، تحت غطاء الحفاظ على المال العام.
الأمر الأكثر خطورةً هو أن هذه الحالة تُهدد الثقة في فكرة التمثيل الشعبي برمتها. فكيف يمكن للمواطن أن يثق في صناديق الاقتراع إذا كان صوته قابلاً للإلغاء بقرار إداري؟ وكيف تُبنى شرعية المؤسسات إذا كانت الغرفة الإدارية لم تحسم في ملفات المعزولين بعد عامين من القرار؟ الأسئلة هنا ليست تقنية، بل هي أسئلة وجودية عن معنى الديمقراطية ذاتها، التي لا تقاس بعدد الصناديق، بل بمدى احترام إرادة الناخبين وحقهم في مساءلة من انتخبوهم.
حالة سيدي بطاش ليست شذوذًا عابرًا، بل هي مؤشر على أزمة أعمق في نموذج الحكامة. فالديمقراطية لا تُختزل في انتخابات دورية، بل في ضمان استمرارية التمثيل واحترام التعددية. إن استمرار شغور المقاعد دون تعويضها، وتهميش دور المعارضة، وتحويل المجالس إلى هيئات شبه موحَّدة، هي أدوات تُعيد إنتاج الاستبداد بأشكال جديدة، أكثر دهاءً وأقل عنفًا. السؤال الذي يفرض نفسه اليوم هو: هل يمكن لديمقراطية تسمح بـ”إخراج الأعضاء من الخيمة” دون محاسبة من يهدمون الخيمة نفسها أن تكون حلاً؟ أم أن الإصلاح الحقيقي يبدأ بإعادة الاعتبار للخيمة كفضاء للتعددية، حيث لا يُعتبر الخروج عنها فضيلة، بل انتهاكًا لمبدأ التمثيل الذي هو أساس الشرعية؟
إذا كانت الرياح قد جرت في سيدي بطاش “بما تشتهيه السفن” – كما يصفها الناشطون – فإن التاريخ يُعلّمنا أن السفن التي تبحر ضد إرادة الركاب مصيرها الغرق، حتى لو بدت لوهلة وكأنها تسبح في بحر هادئ. فالديمقراطية ليست رفاهية، بل هي الضامن الوحيد لشرعية أي نظام، وإلا فإن الخيمة كلها – وليس الخارجون منها – ستكون على ميلٍ لا تُحمد عواقبه.