أولادكم ليسوا لكم…

أم وطفلها

المصطفى الجوي – موطني نيوز 

في لحظة إلهام عميقة، وقبل ما يزيد عن مائة عام، خط جبران خليل جبران كلمات خالدة تتردد أصداؤها في أروقة الزمن، وتخترق حجب السنين لتصل إلينا اليوم أكثر حيوية وإلحاحاً من أي وقت مضى. “أولادكم ليسوا لكم”… بهذه الكلمات البسيطة في ظاهرها، العميقة في جوهرها، بدأ جبران رحلة فلسفية في أعماق العلاقة الأكثر تعقيداً في الوجود الإنساني – علاقة الآباء بالأبناء.

عندما نتأمل في كلمات جبران، نجد أنفسنا أمام رؤية ثورية تتجاوز حدود عصرها، وتخاطب جوهر الإنسان في كل زمان ومكان. يقول جبران: “أولادكم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها، بكم يأتون إلى العالم، ولكن ليس منكم”. في هذه الكلمات يتجلى فهم عميق لطبيعة الحياة نفسها. فالحياة في جوهرها حركة مستمرة، تدفق لا ينقطع، وكل جيل جديد هو موجة جديدة في هذا النهر المتدفق.

يمضي جبران في تأمله ليكشف عن حقيقة جوهرية: الآباء ليسوا سوى قنوات تتدفق من خلالها قوة الحياة. إنهم وسطاء في رحلة الوجود، يحملون مشعل الحياة لفترة من الزمن، ثم يسلمونه للجيل التالي. هذا الفهم يحرر الآباء من وهم التملك والسيطرة، ويفتح الباب أمام علاقة أكثر عمقاً وحكمة مع الأبناء.

وفي لفتة عميقة، يميز جبران بين ما يمكن للآباء أن يمنحوه وما لا يستطيعون. فالحب هو العطية الأسمى التي يمكنهم تقديمها لأبنائهم، لكن الأفكار شأن آخر تماماً. “أنتم تستطيعون أن تمنحوهم محبتكم، ولكنكم لا تقدرون أن تغرسوا فيهم بذور أفكاركم”. هذا التمييز الدقيق يكشف عن فهم عميق لطبيعة النمو الإنساني. فالحب هو التربة الخصبة التي تنمو فيها شخصية الطفل، لكن البذور التي ستنبت في هذه التربة هي بذور فريدة، تحمل في داخلها برنامجها الخاص للنمو والتطور.

يستخدم جبران استعارة المسكن ليعمق فهمنا لهذه العلاقة المعقدة. “في طاقتكم أن تصنعوا المساكن لأجسادهم، ولكن نفوسهم لا تقطن في مساكنكم”. المسكن هنا ليس مجرد بناء مادي، بل هو استعارة للإطار الثقافي والفكري والروحي الذي يعيش فيه كل جيل. الآباء يوفرون الإطار المادي للحياة، لكن الأبناء يخلقون عوالمهم الروحية والفكرية الخاصة.

وفي تأمل عميق لطبيعة الزمن وحركته، يؤكد جبران أن “الحياة لا ترجع إلى الوراء، ولا تلذ لها الإقامة في منزل الأمس”. هذه الحقيقة البسيطة والعميقة في آن واحد تشكل أساساً فلسفياً لفهم العلاقة بين الأجيال. فكل محاولة لإجبار الأبناء على العيش في عالم آبائهم هي محاولة لإيقاف عجلة الزمن، وهو أمر يتناقض مع طبيعة الحياة نفسها.

في عصرنا الحالي، تكتسب رؤية جبران أهمية خاصة. فنحن نعيش في زمن تتسارع فيه التغيرات بشكل غير مسبوق. التكنولوجيا، وسائل التواصل الاجتماعي، التحولات الاقتصادية والاجتماعية العميقة، كلها تخلق فجوة واسعة بين عالم الآباء وعالم الأبناء. في هذا السياق، تصبح دعوة جبران لفهم وتقبل اختلاف الأجيال أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.

فالفهم العميق لرؤية جبران يمكن أن يساعدنا في صياغة مفهوم جديد للتربية. فالتربية في ضوء هذه الرؤية ليست عملية تشكيل وقولبة، بل هي عملية تحرير وتمكين. دور المربي ليس فرض رؤيته على المتعلم، بل مساعدته على اكتشاف ذاته وتطوير قدراته. هذا المفهوم يتوافق مع أحدث النظريات التربوية التي تؤكد على أهمية التعلم النشط، والتفكير النقدي، وتنمية الشخصية المستقلة.

ويختتم جبران رؤيته باستعارة بليغة تلخص فلسفته كاملة: “أنتم الأقواس وأولادكم سهام حية قد رمت بها الحياة من أقواسكم”. هذه الصورة الشعرية العميقة تلخص جوهر العلاقة بين الآباء والأبناء. فالقوس هو أداة توجيه وإطلاق، لكنه ليس هو من يحدد مسار السهم أو وجهته النهائية. دور القوس هو منح السهم القوة الأولية للانطلاق، ثم يترك له حرية الحركة في الفضاء.

إن رؤية جبران للعلاقة بين الآباء والأبناء تتجاوز حدود الزمان والمكان لتقدم لنا درساً عميقاً في الحب والحكمة. فالحب الحقيقي للأبناء يتجلى في القدرة على تركهم يكتشفون طريقهم بأنفسهم، في الثقة بقدرتهم على صنع عالمهم الخاص. هذا الحب الواعي يختلف تماماً عن الحب المتملك الذي يحاول فرض الوصاية والسيطرة.

وفي نهاية المطاف، يقدم لنا جبران رؤية متكاملة للعلاقة بين الأجيال، رؤية تقوم على الحب والثقة والإيمان بقدرة الحياة على تجديد نفسها في كل جيل جديد. هذه الرؤية، في عصرنا المليء بالتحديات والتحولات، تصبح بوصلة نحتاج إليها لفهم أعمق للعلاقة بين الآباء والأبناء، ولبناء جسور التواصل بين الأجيال على أساس من الحب والفهم والاحترام المتبادل.

إن كلمات جبران، رغم مرور أكثر من قرن على كتابتها، تظل نبعاً صافياً من الحكمة والبصيرة، تقدم لنا إجابات عميقة عن أسئلة معاصرة، وترسم لنا طريقاً نحو فهم أعمق وأكثر إنسانية للعلاقة بين الأجيال. في عالم يتغير بسرعة مذهلة، تبقى هذه الرؤية منارة تضيء لنا الطريق نحو مستقبل أكثر حكمة وإنسانية.

فمن منكم قرأ أحدى روائع جبران خليل جبران؟.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

error: Content is protected !!