
المصطفى الجوي – موطني نيوز
في عالمنا المعاصر، تتشابك خيوط السلطة والنفوذ في نسيج معقد يتجاوز حدود المؤسسات الرسمية المعلنة. وفي قلب هذا التشابك، يبرز مفهوم “الدولة العميقة” كظاهرة سياسية واجتماعية تثير جدلاً واسعاً في الأوساط السياسية والأكاديمية والإعلامية. هذا المفهوم، الذي يشير إلى وجود مراكز قوى غير معلنة تتحكم في مفاصل الدولة وتوجه قراراتها، يمثل تحدياً حقيقياً أمام مسارات التحول الديمقراطي والإصلاح السياسي في العديد من المجتمعات المعاصرة.
تتجلى أهمية فهم ظاهرة الدولة العميقة في كونها تمثل واقعاً ملموساً في العديد من الدول، حيث تتشكل شبكات معقدة من المصالح والنفوذ تجمع بين قوى سياسية واقتصادية وعسكرية وأمنية. هذه الشبكات، التي تعمل خارج إطار المؤسسات الدستورية المنتخبة، تمتلك القدرة على توجيه السياسات العامة وصناعة القرارات المصيرية بما يخدم مصالحها ويحافظ على نفوذها.
لقد شهد العالم تجارب متعددة للدولة العميقة عبر التاريخ الحديث، وتعد التجربة التركية نموذجاً كلاسيكياً لهذه الظاهرة. ففي تركيا، هيمنت المؤسسة العسكرية لعقود طويلة على الحياة السياسية من خلال تحالفها مع البيروقراطية التقليدية والنخب الاقتصادية، مما أدى إلى تشكيل منظومة قوية استطاعت التأثير في مسار الحياة السياسية وتوجيه القرارات المصيرية في البلاد.
وفي سياق تطور هذه الظاهرة، لعبت التحولات العالمية الكبرى دوراً محورياً في تشكيل ملامح الدولة العميقة وآليات عملها. فقد أدت الحرب الباردة إلى تعاظم دور الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في العديد من الدول، وترسخت معها فكرة “الأمن القومي” كمبرر لتوسيع صلاحيات هذه الأجهزة وتعزيز نفوذها. كما ساهمت العولمة في تشابك المصالح الاقتصادية والسياسية على المستوى العالمي، مما أدى إلى ظهور شبكات نفوذ عابرة للحدود تجمع بين رأس المال السياسي والاقتصادي.
وفي العصر الرقمي، اكتسبت الدولة العميقة أدوات جديدة للهيمنة والتأثير، حيث أصبحت السيطرة على المعلومات وتدفقها من أهم آليات الهيمنة والتحكم. وقد تجلى ذلك في قدرة بعض الأجهزة والمؤسسات على التحكم في وسائل الإعلام والاتصال، وتوجيه الرأي العام، والتأثير في الخطاب السياسي والاجتماعي.
تتميز الدولة العميقة بقدرتها على البقاء والاستمرار رغم تغير الحكومات والأنظمة السياسية. فهي تمتلك آليات متعددة للحفاظ على مصالحها ونفوذها، منها: التحكم في الموارد الاقتصادية للدولة، والسيطرة على مراكز صنع القرار، وتوظيف الأجهزة الأمنية لحماية مصالحها، وبناء شبكات المحسوبية والولاءات داخل مؤسسات الدولة.
ولعل من أخطر تأثيرات الدولة العميقة تقويضها للمؤسسات الديمقراطية وإضعافها لمبدأ سيادة القانون. فهي تعمل على تهميش دور المؤسسات المنتخبة، وتحد من فاعلية آليات المساءلة والمحاسبة، وتقوض ثقة المواطنين في النظام السياسي الرسمي. كما أنها تؤثر سلباً على التنمية الاقتصادية من خلال احتكار الموارد وتوجيه السياسات الاقتصادية لخدمة مصالح فئة محدودة من النخب المتنفذة.
على المستوى الاجتماعي، تساهم الدولة العميقة في تعميق الانقسامات المجتمعية وتكريس التفاوت الطبقي. فهي تعزز ثقافة الفساد والمحسوبية، وتضعف قيم المواطنة والمشاركة السياسية، وتخلق حالة من الإحباط واليأس لدى شرائح واسعة من المجتمع. كما أنها تستخدم القوة الأمنية لقمع المعارضة وتقييد الحريات العامة، مما يؤدي إلى تعزيز ثقافة الخوف والرقابة الذاتية.
في مواجهة هذه التحديات، يبرز السؤال حول إمكانية مواجهة الدولة العميقة والحد من نفوذها. وهنا يمكن اقتراح مجموعة من الآليات والإجراءات، منها: تعزيز الشفافية والمساءلة في مؤسسات الدولة، وتقوية دور المجتمع المدني ومنظماته، وإصلاح المنظومة القانونية والتشريعية، وتطوير آليات مكافحة الفساد، وتعزيز استقلال القضاء.
كما أن تمكين المجتمع وتعزيز وعيه السياسي يمثل عنصراً أساسياً في مواجهة نفوذ الدولة العميقة. فبناء مجتمع مدني قوي وفاعل، وتعزيز قيم المواطنة والديمقراطية، وتشجيع المشاركة السياسية الفاعلة، كلها عوامل تساهم في الحد من قدرة مراكز النفوذ التقليدية على التحكم في مصائر المجتمعات.
إن مواجهة ظاهرة الدولة العميقة تتطلب إرادة سياسية قوية وتضافر جهود كافة القوى الوطنية المؤمنة بقيم الديمقراطية والعدالة والمساواة. وهي معركة طويلة الأمد تحتاج إلى صبر ومثابرة وتخطيط استراتيجي، لكنها في النهاية معركة ضرورية لبناء دول ومجتمعات ديمقراطية حديثة تقوم على أسس العدالة والمساواة وسيادة القانون.
وبالتالي، يمكن القول إن فهم ظاهرة الدولة العميقة وآليات عملها يمثل الخطوة الأولى في طريق مواجهتها والحد من تأثيراتها السلبية. فالمعرفة والوعي هما سلاح المجتمعات في نضالها من أجل الديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية. ويبقى الأمل معقوداً على قدرة الشعوب على تجاوز هذه التحديات وبناء مستقبل أفضل يقوم على أسس الحرية والعدالة والمساواة.