المصطفى الجوي – موطني نيوز
في فجر يوم التاسع من غشت عام 1945، وبينما كانت أصداء الحرب العالمية الثانية تتلاشى في أرجاء العالم، وقع حدث دراماتيكي هز أركان التاريخ الآسيوي. فقد هبطت وحدات من المظليين السوفييت، على طلائع الجيش الأحمر الزاحف، على مطار كان يستعد منه “بو يي”، آخر أباطرة الصين من سلالة تشينغ العريقة، للفرار مع حاشيته. كانت تلك اللحظة إيذاناً بنهاية حقبة وبداية أخرى، وإسدال الستار على فصل مثير من فصول التاريخ الصيني.
كان “بو يي”، الملقب بـ”ابن السماء”، يترأس دولة “مانشوكو” الدمية التي أنشأها اليابانيون في منشوريا الصينية. هذا الكيان المصطنع، الذي استمر في الوجود بين عامي 1932 و1945، كان يمثل شريان حياة اقتصادي للإمبراطورية اليابانية المتعطشة للموارد. فقد كانت منشوريا، بتطورها الاقتصادي الملحوظ، توفر لليابان ما يقارب خُمس إنتاجها الصناعي بأكمله، مما جعلها جوهرة ثمينة في التاج الإمبراطوري الياباني.
قصة “بو يي” تشبه رواية درامية مليئة بالتقلبات والمنعطفات المفاجئة. وُلد عام 1906 في أحضان العائلة الإمبراطورية، واعتلى العرش وهو طفل في الثانية من عمره، ليصبح أصغر إمبراطور في تاريخ الصين. وفي سن السادسة، شهد بعينيه الصغيرتين انهيار النظام الملكي العريق في الصين، ليجد نفسه فجأة خارج أسوار المدينة المحرمة التي كانت عالمه بأكمله. ثم في الثامنة عشرة من عمره، وفي تحول دراماتيكي آخر، تخلى عن جميع ألقابه الملكية وأعلن نفسه مواطناً عادياً في الجمهورية الصينية الوليدة.
لكن مصير “بو يي” لم ينته عند هذا الحد. فقد وجد نفسه، بعد سنوات قليلة، في قلب لعبة سياسية كبرى. استغله اليابانيون في مخططاتهم التوسعية، ونصبوه حاكماً على “مانشوكو” عام 1932، ثم إمبراطوراً عام 1934. إلا أنه لم يكن في حقيقة الأمر سوى دمية تحركها أيادٍ يابانية خفية، وتحميها حراب جنودها. كان “بو يي” يعيش في قصر فخم، لكنه كان سجيناً في قفص ذهبي، محاطاً بالمستشارين اليابانيين الذين كانوا يتحكمون في كل صغيرة وكبيرة في دولته المزعومة.
مع اقتراب نهاية الحرب العالمية الثانية وتقدم القوات السوفييتية بسرعة البرق، لم يتمكن اليابانيون من إجلاء إمبراطورهم الدمية. وهكذا وقع “ابن السماء” في قبضة السوفييت، ليبدأ فصلاً جديداً من فصول حياته المليئة بالتحولات والمفاجآت.
نُقل “بو يي” إلى معسكر خاص في مدينة خاباروفسك الروسية، حيث بدأ على الفور محاولاته الماكرة للتكيف مع وضعه الجديد. وفي محاولة لتلميع صورته أمام محتجزيه الجدد، روى واقعة اعتقاله بطريقة مختلفة تماماً عما حدث في الواقع. ادعى أنه وحكومته انتظروا وصول الجيش الأحمر بـ”بهجة”، وأنهم تعمدوا تأخير الإخلاء الذي أمر به اليابانيون. كان هذا بالطبع بعيداً كل البعد عن الحقيقة، إذ كان “بو يي” يحاول الفرار بالفعل عندما اعتقله السوفييت.
في محاولة يائسة للنجاة بنفسه وتجنب المصير المظلم الذي كان ينتظره، تحول “بو يي” إلى شاهد ضد مجرمي الحرب اليابانيين في محكمة طوكيو الشهيرة عام 1946. بل إنه ذهب إلى أبعد من ذلك، إذ أرسل طلباً إلى الزعيم السوفييتي “يوسف ستالين” معرباً عن رغبته الجامحة في الانضمام إلى الحزب الشيوعي! كان هذا تحولاً مذهلاً لرجل كان حتى وقت قريب يُعتبر إلهاً حياً وابناً للسماء.
عاش “بو يي” في معسكر خاص للأسرى، أطلق عليه اسم “الموقع الخاص – 45″، في الطابق الثاني من مبنى يضم 142 جنرالاً واثنين من الأدميرالات، إضافة إلى حاشيته المكونة من ثمانية أشخاص. وفي الطابق الأرضي، كان يقبع أسرى حرب من الضباط اليابانيين. كان “بو يي” يعيش في خوف دائم من هؤلاء الضباط الذين كان قد شهد ضدهم، وكان يرى في الحراس السوفييت ضمانته الوحيدة للبقاء على قيد الحياة.
في محاولة أخرى للنجاة وإثبات ولائه للنظام الجديد، سأل “بو يي” في إحدى مراسلاته للقيادة السوفيتية عما إذا كان هناك أباطرة قد انضموا من قبل إلى الحزب الشيوعي. وحين تلقى إجابة سلبية، تنهد بحرارة وقال بحماس: “يمكنني أن أكون الأول!”
لكن مع مرور الوقت، بدأ “بو يي” يفقد قيمته كشاهد بالنسبة للاتحاد السوفيتي. وفي محاولة يائسة لإعطاء نفسه أهمية جديدة، قرر أن يتبرع بكنوزه الإمبراطورية لصالح إعادة بناء الاقتصاد السوفيتي الذي دمرته الحرب. كتب رسالة خاصة إلى ستالين بهذا الشأن، لكن عرضه قوبل بالتجاهل التام.
في عام 1950، اتخذ ستالين قراراً حاسماً بتسليم “بو يي” وأعضاء حكومته السابقين إلى الحكومة الصينية الجديدة بقيادة ماو تسي تونغ. وهكذا بدأ الفصل الأخير من حياة “ابن السماء”، وهو فصل لا يقل إثارة عن سابقيه.
قضى “بو يي” تسع سنوات في سجن خاص بمجرمي الحرب، حيث خضع لما أسمته السلطات الصينية “إعادة التأهيل”. وفي عام 1959، في مفاجأة جديدة، قرر ماو تسي تونغ إطلاق سراحه. وهكذا وجد آخر أباطرة الصين نفسه حراً، ولكن في عالم مختلف تماماً عن العالم الذي عرفه.
في السنوات التي تلت إطلاق سراحه، عاش “بو يي” حياة المواطن العادي التي طالما تمنى أن يعيشها في شبابه. عمل بستانياً في حديقة عامة، ثم انتقل للعمل في المكتبة الوطنية. وفي مفارقة تاريخية مذهلة، نجا “ابن السماء” السابق من أهوال الثورة الثقافية التي اجتاحت الصين في ستينيات القرن العشرين، وهو الذي كان يوماً ما رمزاً للنظام القديم الذي حاربته تلك الثورة بشراسة.
في عام 1967، وبعد صراع قصير مع سرطان الكبد، توفي “بو يي” عن عمر يناهز 61 عاماً. رحل دون أن يترك وراءه ذرية، لينهي بذلك سلالة حكمت الصين لقرون. كانت حياته أشبه بملحمة تاريخية تجسد التقلبات السياسية الهائلة التي شهدها القرن العشرون، وتبرز قدرة الإنسان المذهلة على التكيف مع الظروف المتغيرة، مهما كانت قاسية.
أما كنوز “بو يي” الإمبراطورية، فقد ضاعت في غياهب التاريخ، لتضيف لغزاً آخر إلى قصة حياته المثيرة. إحدى الروايات ذكرت أنها سُلمت إلى معبد بوذي، بينما ظهرت في عام 2003 حوالي 400 قطعة من خزانة “بو يي” في معرض خاص أقيم في كييف. ولا يزال الغموض يكتنف كيفية وصول هذه القطع الثمينة إلى مالكها الحالي، ليزيد لغز الكنز الضائع غموضاً على غموض.
وهكذا انتهت قصة آخر أباطرة الصين، “ابن السماء” الذي هوى من عرشه السماوي ليصبح مواطناً عادياً يعمل في حديقة عامة. كانت حياته رحلة استثنائية عبر أكثر فترات التاريخ الصيني والعالمي اضطراباً، من أوج المجد الإمبراطوري إلى قاع السجون السوفيتية والصينية، ومن ثم إلى حياة المواطن العادي. إنها قصة تجسد في طياتها تقلبات القرن العشرين وتحولاته الدراماتيكية، وتبقى شاهداً حياً على قدرة الإنسان على التكيف والبقاء في وجه أعتى العواصف التاريخية.