المصطفى الجوي – موطني نيوز
وأنا أجلس يوم أمس بالشارع العام اتفرس وجوه الناس الشاحبة وهي تموج ذهابا وايابا ظهر وجه بينهما وجه منير لشخص عزيز ولن يمحى من ذاكرتي الى أن أوارى الثرى، وجه بشوش دائم الابتسامة لأستاذي في مادة الرياضيات “عبد السلام أوريكة” ألقيت عليه التحية وبادلني اياها ودار بيننا حوار جميل إنتقدنا من خلاله ما نعيشه من التفاهة وكيف أن الناس باتت تصفق لها، وكعادته شجعني لان نظرته لي لم تتغير وكأني تلميذ في الفصل عنده وهذا ما يعجبني، لاقرر بعدها أن أكتب مقال في الموضوع والذي إستوحيته من كتاب قرأته بعنوان “سيكولوجية الجماهير ” للكاتب غوستاف لوبون، والذي أهديه لأستاذي العزيز عبد السلام أوريكة وهي بالمناسبة دعوة الى كل محبي القراءة بأن يهتموا بهذا الكتاب لانني متأكد أنكم عند قرائته لن تناموا بسببه.
في عالمٍ تتلاطم فيه أمواج الفكر، وتتصارع فيه تيارات المعرفة، يبرز كتابٌ كمنارةٍ شامخةٍ تُضيء دروب الفهم البشري. إنه “سيكولوجية الجماهير”، ذلك السِفر الخالد الذي نسجه بحروفٍ من نورٍ المفكر الفرنسي الفذ غوستاف لوبون، ليُهدي للبشرية في عام 1895 كنزًا معرفيًا لا ينضب.
هذا الكتاب، الذي يُعدُّ درة تاج الدراسات السلوكية، يغوص في أعماق النفس البشرية حين تنصهر في بوتقة الجماهير. إنه يكشف النقاب عن أسرارٍ ظلت لقرونٍ طويلةٍ حبيسة الغموض، ليفتح أمام القارئ آفاقًا جديدةً في فهم الذات والآخر.
يرسم لوبون بريشةٍ مُبدعةٍ لوحةً فكريةً ساحرةً، يُظهر فيها كيف يتحول الفرد حين ينخرط في الجمع، وكأنه قطرة ماءٍ تذوب في محيطٍ هادرٍ. هنا تولد ما أسماه لوبون بـ”الروح الجماعية”، تلك القوة الخفية التي تُلهب المشاعر وتُشعل الحماس، وتدفع الجماهير إلى آفاقٍ لم يكن الفرد ليبلغها وحده.
إن هذا الكتاب ليس مجرد صفحاتٍ تُقرأ، بل هو مفتاحٌ سحريٌ يفتح أبواب الفهم على مصراعيها أمام ظواهر عديدةٍ تحيط بنا. من صيحات الملاعب الصاخبة إلى همسات الساحات السياسية، ومن ضجيج الاحتجاجات إلى سكون القاعات التجارية، يقدم لنا لوبون بوصلةً لا تخطئ في توجيهنا نحو فهمٍ أعمق لهذه التجمعات البشرية.
لقد أصبح هذا الكتاب حجر الزاوية في صروح معرفيةٍ شتى، من علم الاجتماع إلى فن الإعلان، ومن دهاليز السياسة إلى أروقة الاقتصاد. إنه يكشف لنا سر تلك القوة الهائلة التي تمتلكها الجماهير حين تتوحد، وكيف تصوغ هذه الروح الجمعية أفكارنا وعواطفنا وسلوكياتنا.
ورغم مرور أكثر من قرنٍ على ولادته، لا يزال كتاب “سيكولوجية الجماهير” ينبض بالحياة في قلب النقاشات الأكاديمية المعاصرة. إنه يسبر أغوار تأثير الحشود على السلوك الفردي، ويرسم خريطةً دقيقةً لكيفية تغيير الجماهير لمسار التاريخ.
يرى لوبون في الجماهير كيانًا متقلبًا، عاطفيًا، يستجيب للإيحاءات والرموز استجابةً عميقةً. إنه يصور الروح الجماعية وكأنها قوةٌ خفيةٌ تحول الأفراد المتفرقين إلى كتلةٍ واحدةٍ متماسكةٍ، تتحرك كجسدٍ واحدٍ وتفكر بعقلٍ واحد.
ويحذرنا الكتاب من إمكانية استغلال هذا السلوك الجمعي، سواءً لخيرٍ أو لشر. إنه يفتح أعيننا على كيفية توظيف سيكولوجية الجماهير في تسويق المنتجات، وتشكيل الرأي العام، بل وحتى في صياغة السياسات الحكومية.
وفي النهاية، يبقى كتاب “سيكولوجية الجماهير” تحفةً فكريةً فريدةً، تقدم لنا نظرةً ثاقبةً إلى أعماق النفس البشرية حين تنصهر في بوتقة الجماعة. إنه يمنحنا فهمًا عميقًا للقوى الكامنة في السلوك الجمعي، ويكشف لنا عن تأثيرها العميق في نسيج التاريخ والثقافة الإنسانية. فهو ليس مجرد كتاب، بل هو رحلةٌ مذهلةٌ في أعماق الروح البشرية، تفتح أمامنا آفاقًا جديدةً من الفهم والإدراك.